منظمة مجموعات التحفيز

أزمة انقطاع الكهرباء وأمن الطاقة في مصر

مقالات اخرى

أزمة انقطاع الكهرباء وأمن الطاقة في مصر

أزمة انقطاع الكهرباء وأمن الطاقة في مصر 

خالد فؤاد
باحث الدكتوراه في شؤون الطاقة والعلاقات الدولية

أزمة انقطاع الكهرباء وأمن الطاقة في مصر

 

استهلت “شافير” (Shaffer, B) الباحثة البارزة في أمن الطاقة إحدى مقالتها المنشورة عن دور الغاز الإسرائيلي في شرق المتوسط بمقولة مهمة تبرز أهمية أمن الطاقة لصناع القرار في إسرائيل، حيث تشير “شافير” إلى أن “إسرائيل تتعامل مع سياساتها المتعلقة بالطاقة باعتبارها قضية أمن قومي“. لا تبدو نظرة “شافير” مبالغة أو بعيدة عن الواقع فبعد اكتشافات الغاز الضخمة التي أعلنت عنها إسرائيل عامي 2009 و2010 لحقلي تمار وليفايثان وبعد امتلاك إسرائيل احتياطات ضخمة من الغاز الطبيعي تكفي احتياجات السوق المحلي وتمنح إسرائيل الفرصة لصادرات غاز ضخمة للخارج، كان اللافت للنظر إعطاء أولوية أمن الطاقة وتحقيق استقلالية الطاقة لإسرائيل عن عائدات الغاز الضخمة المتوقعة. وبعد جدل طويل شارك فيه الرأي العام الإسرائيلي والناشطين والسياسيين تم إقرار نسبة 60% من احتياطات الغاز للاستهلاك المحلي بما يكفي احتياجات إسرائيل من الغاز حتى عام 2040 وإتاحة 40% فقط من الاحتياطات للصادرات الخارجية. قد تبدو هذه الأرقام غير مقبولة وغير عقلانية لأصحاب النظرة الاقتصادية لكن في الواقع تعبر عن أهمية أمن الطاقة لدى إسرائيل.

 

على الجانب الآخر في نهاية شهر يونيو/حزيران الجاري تفاقمت أزمة الطاقة في مصر إلى حد تسبب في إثارة جدل داخلي واسع، ووصلت فترات انقطاع الكهرباء لمدة تتراوح من 3 إلى 6 ساعات في مصر، ليخرج بعدها رئيس الوزراء المصري موضحا سبب أزمة الطاقة بعطل فني لأحد حقول الغاز في دولة مجاورة، وهو تصريح دبلوماسي لا يحمل سوى تفسير واحد فقط أن أزمة الطاقة التي تعاني منها مصر وسط حرارة الصيف الشديدة سببها تعطل إمدادات الغاز القادمة من إسرائيل.

 

وأعود هنا إلى خمس سنوات سابقة عندما كان هناك احتفاء كبير بصفقة الغاز الموقعة مع إسرائيل في عام 2018، في ذلك التوقيت لم يكن من الشائع الحديث عن أمن الطاقة وخطورة الاعتماد على الغاز الإسرائيلي، ولكن الحرب الروسية الأوكرانية أعادت مرة أخرى تعريف مفهوم أمن الطاقة أو بالأحرى أعادت ملف أمن الطاقة إلى طاولة صناع القرار حول العالم، وذلك بعد أن أتضح حجم الأزمة التي تعرضت لها أوروبا بسبب اعتمادها المفرط على الغاز الروسي وكيف تلاعبت روسيا بإمدادات الغاز لتحقق رغباتها وطموحاتها السياسية. جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتعطي الفرصة مجددا لقراءة أكثر موضوعية لأمن الطاقة ولتؤكد أن ملف صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر من المهم تناوله من منظور أمن الطاقة قبل أي شيء.

 

لم يكن الهدف من هذه المقدمة قراءة في سياسات الطاقة الإسرائيلية أو أزمة الطاقة في أوروبا ومقارنتها بما تشهده مصر من أزمة كهرباء مؤلمة، ولكن المقصد هنا هو تسليط الضوء على مفهوم أمن الطاقة بشكل عام وتطوره في السنوات الأخيرة وعلى أولوية أمن الطاقة وأهميته في حال التواجد في بيئة معقدة جيوسياسيا، والأهم من ذلك فهم النهج الذي تعاملت به القيادة السياسية في مصر مع ملف شائك وحيوي مثل ملف الغاز الطبيعي.

 

وبالرغم من وضوح خطورة صفقة الغاز مع إسرائيل على أمن الطاقة المصري وكذلك الأمن القومي -إذ أن اعتماد مصر على الغاز الإسرائيلي يمنح الأخيرة أداة ضغط جيوسياسية لم تحصل عليها أبدا في تاريخ علاقتها مع مصر-، فقد قبلت السلطة في مصر واستمرت في إطلاق الأسباب والمبررات حول حصولها على إمدادات الغاز الإسرائيلي. وهنا جاء دور إسرائيل لتثبت بشكل واقعي المخاوف والمخاطر التي طالما حذر منها كثيرون الحكومة المصرية من الاعتماد على الغاز الإسرائيلي، وفي خضم العلاقات التي توترت بين مصر وإسرائيل في أعقاب اندلاع حرب غزة في أكتوبر الماضي ورغبة إسرائيل في تهجير أهل غزة إلى سيناء في مقابل الرفض المصري، أعلنت إسرائيل وقف العمل بمنصة إنتاج حقل تمار وأعلنت وقف العمل بخط أنابيب العريش/عسقلان لتتوقف إمدادات الغاز إلى مصر لعدة أسابيع عانت مصر خلالها من أزمة انقطاع الكهرباء.

 

لم يكن وقف إسرائيل إمدادات الغاز وقتها بسبب الحرب كما ادّعت، لأن ما أوقفته إسرائيل كان من حقل تمار، في حين أن أغلب إمدادات الغاز الإسرائيلية إلى مصر تأتي من حقل ليفياثان وهو الحقل الذي لم يتوقف وواصل إنتاجه بشكل طبيعي خلال الحرب. هنا ما كان الحديث عنه كاحتمالات ومخاطر أصبح واقعاً ملموساً واستخدمت إسرائيل صادرات الغاز بوصفها أداة للضغط على مصر للرضوخ للمطالب الإسرائيلية، وهكذا فُتح الباب أمام تكرار نفس الموقف لتحقيق أهداف إسرائيل تحت مزاعم الحرب المستمرة أو الأعطال الفنية أو أي ادعاءات أخرى.

 

ما يهم الآن هو العودة لتقييم تعامل القيادة السياسية في مصر مع ملف أمن الطاقة والأخطاء التي وقعت فيها الحكومة وكيف يمكن أن نصحح الأوضاع في المستقبل، والأهم من ذلك هو توثيق هذه الأزمات بالنقد والتقييم والمراجعة وتقديم الحلول لعلها تنفع الأجيال القادمة. سأشير هنا إلى مجموعة من الأخطاء الإدارية والجيوسياسية في تعامل القيادة السياسية والحكومة المصرية مع ملف الغاز الطبيعي: 

 

أخطاء إدارية

أولاً: منذ منتصف العقد الماضي وبالرغم من اكتشاف حقل ظهر الضخم وما يحتويه من احتياطات غاز هائلة سمحت لمصر بالإعلان عن الاكتفاء الذاتي والتوقف عن استيراد الغاز في عام 2018، ومع ذلك صدرت العديد من الدراسات المعمقة من مراكز أبحاث الطاقة والمؤسسات والبنوك الدولية تتوقع تزايد الاستهلاك المحلي وتراجع إنتاج الغاز مما سيؤدي إلى إنهاء الاكتفاء الذاتي وعودة مصر مرة أخرى لاستيراد الغاز في غضون سنوات. في المقابل كانت تقديرات الحكومة المصرية خاطئة ولم تنتبه إلى أن الاكتفاء الذاتي الذي حققته مصر محدود ولن يتخطى سوى سنوات معدودة، وبناء على ذلك وضعت القيادة السياسية حساباتها أن جلب الغاز من إسرائيل سيكون للتصدير للخارج وليس للاعتماد عليه في السوق المحلية، وهو ما أثبت الوقت أنه تقدير خاطئ حيث أصبحت مصر الآن تستقبل كل صادرات الغاز الإسرائيلية لسد احتياجاتها.

 

ثانياً: بعد أن احتل حقل ظهر صدارة الترتيب بوصفه أكبر حقل غاز في شرق المتوسط، تراجع ترتيب الحقل ليحتل المركز الثالث خلف حقلي ليفياثان وتمار، والسبب هنا في هذا التراجع المفاجئ في الإنتاج وحسابات الاحتياطات هو تداخل القرار السياسي مع القرار الفني. حيث سعت القيادة السياسية لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة من الحقل عبر تسريع عمليات التطوير والإنتاج من الحقل دون النظر للآراء الفنية التي تقتضي الموازنة بين زيادة الإنتاج والحفاظ على حالة الآبار المُنتجة من أي أضرار فنية.  وكانت النتيجة انهيار الإنتاج من حقل ظهر بعد عدة سنوات من بداية الإنتاج وهو ما انعكس بشكل مباشر على تراجع إجمالي إنتاج الغاز المصري، حيث يمثل حقل ظهر حوالي من 35% إلى 40% من إنتاج الغاز المصري.

 

ثالثاً: مع بداية صيف 2024 كان واضحا حجم الفجوة المتزايد بين استهلاك الغاز في مصر وإنتاجه، ومع ذلك ومع اقتراب شهور الصيف الأكثر سخونة والتي يتزايد معها استهلاك الغاز تباطأت الحكومة المصرية ولم تأخذ قرارات استباقية بتأمين إمدادات الغاز، وكانت النتيجة -بعد ما أجَّرت مصر وحدة تغويز لاستقبال الغاز المسال (FSRU) وأعلنت عن مناقصة لشراء شحنات غاز مسال-، صعوبة الحصول على شحنات الغاز المسال وسط ارتفاع الطلب العالمي عليها بسبب شراهة الأسواق الآسيوية وكذلك بداية الشتاء في أمريكا اللاتينية، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار واحتدام المنافسة على الغاز المسال.

 

أخطاء جيوسياسية

أولاً: ظلت القيادة السياسية تتعامل مع إمدادات الغاز الإسرائيلية من منظور اقتصادي فقط دون الاعتبار للأبعاد الأمنية والجيوسياسية، وهنا كان أحد الأخطاء المركزية هو الاعتماد المفرط على مصدر واحد فقط للغاز، وهو أمر يجب أن يثير مخاوف أي صانع قرار من استخدام الدولة المُصدرة الغاز كأداة سياسية. والوضع في الحالة المصرية أكثر خطورة، إذ أن مُصدّر الغاز هو إسرائيل التي تربطها بمصر علاقات وحسابات معقدة للغاية تجعل احتمالات الاستخدام الجيوسياسي للغاز من قبل إسرائيل متزايدة، خاصة وأن مصر تتلقى 18% أو خمس احتياجاتها من الغاز الطبيعي من إسرائيل في الوقت الراهن. وكانت الحسابات والتوقعات لهذا الأمر تفرض على القيادة السياسية اتخاذ خطوات مبكرة لتأمين إمدادات الغاز الطبيعي من مصادر متنوعة.

 

ثانياً: عقود طويلة الأجل مع مصدر غير موثوق، هذا هو عنوان الخطأ الجيوسياسي الأبرز في هذا الملف. في عالم النفط والغاز هناك اعتبارات مهمة يجب النظر لها عند أي صفقات طويلة الأجل، وفي مقدمة هذه الاعتبارات أن هذا النوع من الصفقات يستلزم علاقات قوية ومتماسكة بين الطرفين. على سبيل المثال على الرغم من الشراكة والتعاون الكبير بين روسيا والصين في مواجهة أمريكا وحلفائها الغربيين، فروسيا حتى الآن وبعد جهود مضنية لم تستطع إقناع الجانب الصيني بالشراكة في مشروع غاز طويل الأجل وهو خط أنابيب “قوة سيبيريا 2″، والسبب في ذلك عدم رغبة الصين في عقد صفقات طويلة الأجل مع مصدر غير موثوق يستخدم الغاز في صراعاته وتحالفاته السياسية، ووجهت الصين عقودها طويلة الأجل للغاز مع قطر وعمان وحتى أمريكا، لكن مصر وقعت صفقة الغاز مع إسرائيل لمدة 15 عاما تنتهي في عام 2034، وبالنظر إلى طبيعة العلاقات بين مصر وإسرائيل والتي مهما تطورت ونمت لأسباب سياسية تظل هشة وقابلة لتصاعد التوترات لأسباب متعددة في إقليم زاخر بالتوترات الجيوسياسية، لذا فإن صفقة طويلة الأجل مع إسرائيل تبدو أمرا يتنافى مع أساسيات أمن الطاقة وحتى المنطق.

 

الحلول والمقترحات

من المهم أن تتراجع نسبة اعتماد مصر على الغاز الإسرائيلي بشكل كبير حتى لا يصبح للغاز الإسرائيلي قيمة جيوسياسية وأمنية تذكر بالنسبة إلى مصر. وإلى جانب تكثيف الأنشطة الاستكشافية وأعمال تطوير الحقول لزيادة إنتاج الغاز الطبيعي فمن المهم تأمين الغاز المسال من مصادر مختلفة مثل قطر والجزائر والتي من الممكن التوصل معهم لأسعار مقبولة نظرا لاعتبارات العلاقات التاريخية والتعاون المشترك مع تلك الدول. وكذلك من المهم عدم الاعتماد فقط على عقود الشراء السريعة، فتوقيع عقود طويلة الأجل للغاز المسال يمكنه أن يوفر لمصر إمدادات الغاز الطبيعي خلال أوقات تزايد الطلب العالمي على الغاز مما يُسهم في حماية مصر من أزمات الطاقة في المستقبل. 

 

وبشكل عام فإن أزمة الكهرباء في مصر وتعامل القيادة السياسية معها يؤكد على الحاجة الملحة لإعادة النظر في مفهوم الأمن القومي المصري والمؤسسات المسؤولة عنه بحيث تضع أولوية لأمن الطاقة والغذاء والسلم الأهلي والدواء… إلخ فوق أي اعتبار آخر.

 

 

الوسوم :
شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *