الاستعمار .. صداه ومداه وتأثيره على الحركات الوطنية
لا أزعم في هذا المقال يا صديقي طرح تحليل أكاديمي أو تأسيسا تاريخيا لمرحلة أخرى في مواجهة الاستعمار، ولا أريد أن أستغرق في نظرية المؤامرة أو تعميق جذورها، أو البكاء على اللبن المسكوب. إنما هي خواطر شخصية من رحلة طويلة في العمل العام ونقاشات متنوعة مع كثير من الأصدقاء والأحباب والأساتذة الذين أعتبرهم من تجليات فضل الله عليّ في هذه الرحلة.
ترتكز تلك الخواطر الشخصية حول سؤال مركزي: كيف نقيم استقلالنا؟
وأعني هنا بعد مرور كل هذه الأعوام على خروج المحتل من أرض مصر، هل خرج من حقا من أفكارنا وسيطرته على مؤسساتنا ونخبتنا، بل لا أبالغ إن سألت هل انتهى تأثيره على المواطن المصري العادي؟
بل تلك الألفاظ التي أستخدمها الآن مثل: مؤسسات، ونخبة، ومواطن وغيرها كثير، هل معناها في أذهاننا حقا نابع من بيئتنا وثقافتنا وتجربتنا، أم هي معانٍ نفهمها ونناقشها كما يفهمها ويناقشها المُستعمر من وحي ثقافته وتجربته وخبرته وأهدافه؟
وحتى لا أبتعد كثيرا عن محور المقال، فإن إجابتي على السؤال الذي بدأت به ستكون مبنية على رصد عدة أحداث في تاريخنا الحديث، ومحاولة النظر في كيف نفهمها ونتفاعل معها ونستحضرها في ذاكرتنا ونقاشاتنا اليومية، وكيف نبني عليها عملنا في الحاضر وتصوراتنا عن المستقبل؟
خذ مثلا يا صديقي، أحداثا تاريخية نعرفها جيدا كالثورة العرابية وثورة 1919 وثورة 1952، كيف كُتبت في الصحافة وقتها وبعد ذلك في كتب التاريخ؟
نعم هناك نظرية أن تلك الأحداث كُتبت من وجهة نظر عسكرية؛ للتأسيس للحظة وطنية في توقيت معين و بتسلسل منطقي، ولكن كما يقول الدكتور أحمد ضياء دردير في مقاله “1919 فجوة الأرشيف المنتجة”: “فأحداث عام 1919 وقعت في ظل تعتيم إعلامي فرضته الرقابة البريطانية الصارمة على الصحف المصرية، مما أدى بدوره إلى فجوة في الأرشيف الوطني، فلو رجعنا إلى جرائد تلك الفترة، فلن نجد سوى تعميمات وأخبار مبتسرة (معظمها مستقى من المصادر الرسمية البريطانية)، ومقالات مبهمة (كثير منها يدور حول المفاضلة بين المظاهرات الحضارية، وأعمال الشغب)، وبعض النشرات العسكرية البريطانية مترجمة إلى العربية. طبعاً سنجد مواكبة للأحداث، ولكننا سنجد هذه المواكبة غارقة في العموميات، فلن نجد تغطية شاملة للأحداث، ولا تحليلات عميقة، أو مفصلة بأقلام الوطنيين. إلا أن فجوة الأرشيف هذه هي التي جعلت من أحداث عام 1919 لحظة مواتية لتأسيس ذاكرة وطنية”.
الباحث هنا لا يتحدث عن فجوة في الكتابات أو الأدبيات عن تلك الفترة، لكن كما أشار عدة مرات عن الأرشيف الذي يؤرخ ويضم ما حدث بالفعل وأنه كُتب -سواء ما كان بالإنجليزية أو العربية- تحت رقابة مشددة من الاستعمار، ويضيف كيف أن الرواية في الأرشيف البريطاني كُتبت من وجهة نظر الاستخبارات والأمن البريطاني، وأن الأرشيف المصري -على قلته- كان مراقبا، وخاضعا لتأثير المحتل، أو كان من وجهة نظر داعمة للمحتل في أحيان أخرى.
وفي مثال آخر، من كتاب الدكتور يامن نوح بعنوان “مدرسة القضاء الشرعي (إصلاح المحاكم الشرعية والتحديث القانوني في مصر 1907-1927م)”، يناقش مفاهيم مهمة مثل: الشريعة، والفقه الإسلامي، والقانون، والمحاكم الشرعية والأهلية والمختلطة والمحاكم القنصلية، ويحاول فهم تلك الحالة المركبة من التفاعل مع الشريعة الإسلامية والفقه، وكيف كانت محاولات الاستعمار “لتقنين” الفقه الإسلامي وتحويله إلي مدونة أحكام ثابتة (كود) مثله مثل القانون الفرنسي، وكيف أننا الآن ننظر للفقه الإسلامي بوصفه قانونا إلهيا، على عكس حقيقته في كونه اجتهادا بشريا، و كيف أن تلك النظرة متأثرة بدرجة كبيرة بنظرة المستعمر ومحاولاته وضع قانون (يفهمه ويستطيع التعامل معه)، وفي نفس الوقت يحافظ على عادات المكان الذي يحتله، وتقاليده، وأعرافه، ومظاهر إيمانه؛ ليستطيع التحكم فيه وتحقيق مصالحه. وأنقل لك هنا اقتباسا مهما من أحد مقالات الكاتب بعنوان “قادها فقيه مصري ومستشرق فرنسي: تقنين الشريعة في الجزائر” ، فيقول الدكتور يامن نوح:
“لم يفهم الفرنسيون نظام المحاكم الشرعية في الجزائر حين قدموا إليها كمستعمرين. فقد كانت المحاكم الشرعية تمارس تقليداً قضائياً يتيح للقاضي المسلم مساحة معقولة من «الاجتهاد». و«الاجتهاد» هنا -على عكس ما يعتقد كثير من الناس- ليس «اختراع أحكام جديدة» هكذا ببساطة، ولكنه اجتهاد يأتي في أغلب الأحوال عن طريق «الترجيح» بين عدة آراء متداولة داخل المذهب، وربما خارجه إذا استدعى الأمر. كما تعطيه أيضاً مساحة جيدة للجوء إلى «العرف» كأحد مصادر التشريع الممكنة بحسب ما تقتضيه القضية المنظورة.
وقد يختار القاضي في أحيان كثيرة أن يتمسك بالرأي المعتمد أو المشهور في المذهب في هذه الحالة أو تلك. وكذلك بإمكانه بالفعل أن ينشئ رأياً جديداً إذا كانت مكانته العلمية والأدبية تؤهله لذلك. وتقريباً، كان هذا النظام هو نفسه نظام المحاكم الشرعية في مصر قبل دخول الحملة الفرنسية إليها، وحتى بعدها بدرجة أو بأخرى. هنا، ورغبة في بسط «العدالة» الفرنسية على نظرة المحاكم الشرعية في الجزائر، شرع الفرنسيون في مشروعهم «الإصلاحي» عن طريق «التقنين»، أي تحويل الفقه الإسلامي المالكي إلى مدونات أحكام ثابتة وموحدة تأسيساً على «مختصر خليل». وقد قال موراند بعد ذلك عن هذا المشروع الذي أشرف عليه بنفسه: «لقد بقينا في الجزائر ملتزمين بقانون خليل»، أي إلى «قانون» عمره أكثر من خمسة قرون، وبذلك نكون قد ارتكبنا خطأ حين توهمنا أن السكان المحليين قد توقفوا عند هذه المرحلة”.
وهنا يا صديقي نلاحظ كيف أن فكرة المستعمر عن “الإصلاح” و”العدالة” و”المساواة” و”القانون” هي أفكار في الأصل تناسب مجتمعات المستعمر وبنت بيئته، لكن ما قدر مناسبتها للمجتمعات التي احتلّها؟ وما تأثير تلك النظرة الاستعمارية في حالة مثل الجزائر أو غيرها؟
من تلك الأمثلة -وغيرها كثير لا يتسع المقال لذكره- نستطيع أن نقدّم معاً بعض الأسئلة المهمة:
- ما الدور الذي يجب أن يقوم به المهتم بالشأن العام؟
- كيف يمكن إعادة بناء تفكيرنا وحواراتنا حول محاولات الإصلاح السياسي لتكون على طريق استقلال حقيقي؟
- ما الدور الذي يجب أن نقوم به كي نسترد ماضينا من دون أن نتأثر بوجهة نظر المستعمر عن أنفسنا؟
- كيف نفهم حاضرنا ونبني مستقبلنا في ظل هذا المنظور الجديد؟
إذا كانت تلك الموضوعات المهمة والأساسية حولها كثير من اللبس والاختلاف، فكم من الموضوعات الأخرى التي ننطلق منها ونتحرك بها كبديهيات في العمل الوطني، هي في الأصل نتيجة مرحلة بعينها، أو -بأقل تقدير- لا تناسب “طبيعة” المجتمع الذي نتحرك فيه ومن أجله، فكيف يمكن البناء لمستقبل ما زال ماضيه وحاضره ومتأثر بالاستعمار، وكيف يمكن “استرداد” حاضرنا بفهم ماضينا كما كان، لبناء مستقبلنا كما يجب أن يكون؟