المشاركة السياسية في ظل الأنظمة السلطوية: الانتخابات ومعارضة المنفى
من موقع المنفى السياسي والتنظيمات السياسية لمجتمع المهجر المصري على وجه الخصوص، ما أفق المشاركة السياسي؟ ما أشكال المشاركة الممكنة وعلاقاتها بالداخل؟ كيف يؤثر كلاهما على الأخر؟ كل هذه الأسئلة تتفرع عن السؤال الأساسي لهذه الورقة وهو ما جدوى المشاركة السياسية والانتخابية في الأنظمة السلطوية؟ هذا هو السؤال المركزي لهذه الورقة، ولذا سأحاول تفكيكه بمناقشة الانتخابات وأسبابها وكيفياتها في ظل السلطويات، ويجب ذكر أن الأنظمة السلطوية تمثل طيف واسع من شمولية النظام الستاليني إلى أنظمة ديمقراطية انتخابية كالمجر يضيق فيها على أنشطة المجتمع المدني المختلفة، بالإضافة إلى التغير الدائم لدرجة السلطوية والأدوات التي تستخدمها عبر الزمن، فسلطوية مبارك اختلفت في كل عقد من حكمه، كما أنها تبدو رحيمة إذا ما قورنت بسلطوية السيسي الحالية التي زجت بعشرات الألاف في السجون، ودفعت مثلهم ويزيد إلى المنافي.
أتبنى في هذه الورقة منظور “أفعال المواطنة” للباحث إنجين إيشين[1]، والذي يرى المواطنة كمشروع تنافسي مستمر يحاول فيه الأفراد تأكيد نفسهم كذوات سياسية تمتلك الحقوق عبر ممارساتهم المختلفة، منظور إيشين يتشابه مع المقولة العربية “الحقوق لا تعطى، بل تنتزع”. في هذا النموذج، المواطنة ليست معطى، بل مشروع يتعلمه الأفراد عبر ممارساتهم، وهنا أستخدم الفرد لا المواطن، فحتى اللاجئ والمهاجر والمنفي يساهمون في تشكل المواطنة عبر نضالهم وشبكات التضامن، سواء كانت في بلدهم الأصل أو المضيف، فالمواطنة لا ترتبط بالحدود الوطنية ولا تعبأ بالوضع القانوني لمن يناضل من أجل حقوقه. وفي هذا المنظور، لا يشترط أن يلتزم الفرد بالسكريبت أو القانون، بل عادة ما يتحداه ويعيد تعريفه. باختصار، أفعال المواطنة هي تتعلق بالذوات التي تطالب بحقوقها بشتى الطرق، مثل الانتخابات والمظاهرة والحملات على مواقع التواصل وبناء التحالفات وغيرها من الأفكار التقليدية أو الجديدة الإبداعية. المواطنة هنا أن تكون ذاتاً مسيسة غير خاضعة للسلطة وإلا فلا معنى للسياسة من الأساس. والذات المسيسة فاعلة وتتحمل المسؤولية في تشكيل المواطنة لأنها ليست فقط ضحية مفعول بها. جوهر الذات المسيسة هو رفض كلاً من الخضوع والابتعاد عن السياسة، وتتجلى هذه الذات في تفاصيل الحياة اليومية من متابعة الأخبار والنقاشات السياسية بشكل مستمر، والمحاولات الدائمة للتنظيم السياسي.
سأركز في هذه الورقة على الانتخابات بشكل أساسي، حيث تمثل الانتخابات فرصة للتغيير بمستوياته المختلفة، كما تتكثف فيها الأشكال المختلفة للمشاركة السياسية، كبناء التنظيمات القاعدية والسياسية، وبناء التحالفات الأيدولوجية والعابرة لها، وفيها فرصة الدعوة لحوارات وطنية لتجسير الخلافات وبناء تواصل مع الناس وحشدهم، وفيها تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي بشكل فعال لإثارة الغضب ضد النظام السلطوي وحشد الناس ضد، وأخيراً فيها فرصة العمل من المنفى متمثلاً في بناء التنظيمات والتحالفات والمعارضة الرقمية وحتى عمل التوكيلات والتصويت في الانتخابات، وهو ما سيكون جلياً في مناقشة حملة أحمد الطنطاوي. وفي هذا السياق، سيتجلى علاقة السياسة في المنفى بالسياسة في الوطن، ومعوقات المشاركة السياسية في المنفى.
الانتخابات في الأنظمة السلطوية:
الانتخابات تعد أبرز أشكال المشاركة السياسية في الأنظمة الحديثة سواء كانت ديمقراطية أو سلطوية. ولعل دراسة جيديز وأخرين[2] التي تناولت بالدراسة الأنظمة السلطوية عالمياً بين عامي ١٩٤٦ و٢٠١٠، عالجت سؤال الانتخابات في ظل الأنظمة السلطوية بشكل موسع، من أبرز ما وجدوه هو أن الانتخابات مثلت الطريقة الثانية لإسقاط الأنظمة السلطوية بنسبة ٢٦٪ بعد الانقلابات العسكرية بنسبة ٣٥٪، بينما أتت الانتفاضات الشعبية في المرتبة الثالثة بنسبة ١٧٪. ومن الملاحظ أن نسبة الانقلابات قلت بعد انتهاء الحرب الباردة للمخاطرة المتمثلة بها، بالإضافة إلى الضغوط الغربية لإجراء انتخابات شبه تنافسية. في دراساتهم، وجدوا أن العديد من العوامل تساعد على سقوط السلطويات منها انشقاقات من دوائر النظام وازدياد مشاركة المواطنين للمعارضة والتشكك في قدرة بقاء النظام، كما تلعب الأزمات الاقتصادية الداخلية وصدى الأزمات العالمية دوراً مهماً في زيادة السخط وتوسيع دائرة المعارضة التي قد تؤدي لسقوط النظام. لكن، كل هذه العوامل ليست كافية فبنية النظام وكيفية مركزته للسلطة ودوائر المحسوبية حوله والدعم الخارجي تلعب دوراً مهماً في بقاء الأنظمة وسقوطها.
بالعودة لسؤال الانتخابات، تعد حجة بربرا[3] الأساسية هي أن السلطويات تجري انتخابات على الرغم من المخاطرة الكامنة فيها، لأن هذه المؤسسات كالبرلمان والانتخابات التشريعية تساعد على حل الصراعات داخل النخبة الحاكمة وتوفير قدر من الاستقرار للنظام. تلعب الانتخابات سواء المحلية أو التشريعية دوراً مركزياً في إرساء سلطة النظام على المستوى القاعدي والمحلي، فبالتالي هي أداة لقياس النبض واستشعار المشكلات التي يجب أن تحل لأن تفاقمها ربما قد يهدد النظام السلطوي كله. كما أن الانتخابات تعتبر أداة مراقبة دروية، من خلالها، يتمكن النظام من كشف عدم الكفاءة والانشقاقات المحتملة في قواعد حزبه وسلطته. وبالتالي تربط الانتخابات كلاً من الحزب الحاكم (أو الأحزاب) والجهاز التشريعي مع النظام ككل مما تقوي من فرص استمراريته. هذا الهيكل السلطوي يستطلع المشاكل ويحاول حل بعضها، كما أن موسم الانتخابات يعد فرصة لتوزيع بعض المنافع والعطاءات للمواطنين (المصوتين) لضمان ولائهم أو على الأقل رضاهم عن النظام.
الانتخابات في مصر السلطوية:
تشترك مصر في سلطويتها مع العديد من السلطويات حول العالم من شكل الدور القوي للمؤسسة العسكرية كضامن للنظام السياسي، كما الدور المتفاوت لحزب حاكم من الاتحاد الاشتراكي العربي في ظل ناصر، والحزب الوطني في ظل عهدي السادات ومبارك، ولكن علاقة نظام السيسي بالأحزاب (كحزب مستقبل وطن) وبالتالي حتى الانتخابات لم تدرس أكاديمياً بشكل كافي يمكننا من فهم ما الدور التي تمثله الانتخابات في ظل نظام السيسي. لذا سأحاول في هذا الجزء من الورقة تناول دور الانتخابات في عهد مبارك، وأختمه بلمحات عن شكلها في عهد السيسي.
تبني بليدز على عمل جيديز كما تضيف له بدراساتها المختلفة التي تركز على الحالة المصرية. في دراستها “الانتخابات السلطوية وإدارة النخبة”[4] وفي كتابها “الانتخابات والسياسة التوزيعية في مصر مبارك”[5]، ترى أن الانتخابات والمؤسسات منها تلعب دوراً مهماً في إضفاء قدر من الشرعية داخلياً وخارجياً، بالنسبة للخارج، فإن حقبة الهيمنة الليبرالية الأمريكية جعلت من التمسك بالسلطوية المطلقة أمر مكلف، مما حفز العديد من السلطويات في إجراء انتخابات شبه تنافسية. تلعب الانتخابات البرلمانية في الأنظمة الاستبدادية مثل مصر دوراً حاسماً في الحفاظ على استقرار النظام وإدارة المنافسة بين النخبة. وتعمل هذه الانتخابات كآلية لتوزيع الفوائد الاقتصادية، مثل الريع والثروة والترقيات داخل الدولة والحزب، بين المجموعات ذات النفوذ السياسي، بما في ذلك النخب التجارية ورؤساء العائلات خاصة في الأرياف وكوادر الأحزاب. ومن خلال توفير الوصول إلى موارد الدولة، تعمل الانتخابات كسوق للنخبة للتنافس على الامتيازات، وضمان ولائهم والحد من خطر المعارضة التي قد تهدد النظام. وبمرور الوقت، أدى التحرير الاقتصادي إلى زيادة قيمة المقاعد البرلمانية، مما أدى إلى زيادة المنافسة وانخفاض معدلات شغل المناصب مع تنافس المزيد من المرشحين على الفوائد المربحة المرتبطة بالمناصب، ما يعني أن في كل انتخابات، كان يفوز بها العديد من الشخصيات الجدد من قواعد الحزب مستبدلة أخرى قديمة. سبب ازدياد المنافسة هو أن “تحت غطاء الحصانة البرلمانية، يتمتع الأفراد الذين فازوا بمناصب عامة بالقدرة على الانخراط في الفساد دون خوف كبير من الملاحقة القضائية” (ص٤٩، ٢٠١١). أي أن الانتخابات تلعب دوراً محورياً في نظام المحسوبية في مصر حيث تداخل رأس المال والسلطة في شكل رجال أعمال كبار في المدن أو عائلات ورجال أعمال أصغر في الأرياف.
وتخدم الانتخابات في هذه الأنظمة أغراضاً أوسع نطاقاً. فهي توفر منصة لإدارة التحالفات النخبوية من خلال ترتيبات تقاسم السلطة واستقرار النظام من خلال نزع فتيل الصراعات الداخلية، فهي بالتالي تمثل عقداً بين المستبد وتحالفه من النخبة الحاكمة يتم من خلالها تقسيم النفوذ بطريقة مقبولة. فضلاً عن ذلك، تعمل الانتخابات دوراً معلوماتياً،عن طريق إظهار قوة الحزب وبالتالي التخويف من الانشقاقات، بالإضافة إلى توفير معلومات عن المعارضين والداعمين وتوزيعهم الجغرافي وبالتالي معاقبة ومكافأة هذه المناطق تباعاً، كحالة الحزب الثوري المؤسساتي الذي حكم البلاد لسبعة عقود. ويمكن للانتخابات أيضاً أن تعمل كصمام أمان سياسي، حيث تقدم مظهراً من مظاهر التعددية للتخفيف من حدة السخط الاقتصادي بين السكان. وبعيداً عن توزيع الموارد وإدارة التحالفات، تقدم بليدز ثلاثة تفسيرات أخرى: أولاً، تساهم الانتخابات في الشرعية الرمزية للنظام من خلال تعزيز الوهم بالدعم الشعبي، حتى عندما يدرك الناس على نطاق واسع وهم هذا الدعم. وهذه الأفعال الرمزية، على الرغم من كونها قسرية، تعمل على تعزيز صورة النظام بأنه لا يقهر وتثبط عزيمة المعارضة المنظمة. وثانياً، الانتخابات تكبح الانقلابات، لأن الأنظمة الاستبدادية التي تضم أحزاباً وتجري انتخابات تعكس انخراط عدد كبير من المواطنين في الاستثمار في البنية التنظيمية للنظام، مما يزيد من كلفة الانقلاب. ثالثاً، تدجين المعارضة بإعطائها حوافز وإشراكها في العملية السياسية، وقد يتم هذا بإشراك شكلي، أو في حالة معارضة قوية قد يضطر النظام لتقديم تنازلات لاستيعاب المعارضة.
ومع ذلك، فإن ممارسة الانتخابات في السياقات الاستبدادية ليست خالية من التناقضات. ففي حين تعمل الانتخابات على استقرار النظام، فإنها تكشف أيضاً عن الانتهاكات النظامية، مثل الفساد والتزوير وفضائح الحصانة من قبل بعض النواب. ولعب التزوير الصارخ في انتخابات ٢٠١٠ دوراً مهماً في تزايد السخط ولاحقاً الثورة.
يدرس كوهلر[6] (٢٠٠٨) تقاطع الآليات الرسمية وغير الرسمية أثناء الانتخابات وكيف تحافظ على شبكات المحسوبية، حيث يعمل أعضاء البرلمان كوسطاء بين المواطنين والسلطة المركزية من خلال توزيع الموارد المادية في مقابل الولاء الانتخابي. يجدد هذا النظام بشكل دوري شبكات المحسوبية، مما يعزز سيطرة النظام، يسمي كوهلر هذه الظاهرة بـ”إدماج المحسوبية” Clientelist Inclusion حيث يتحول المواطنين إلى زبائن تكافؤ بالخدمات والمزايا لقاء ولائهم وخدمتهم للراعي. بالإضافة إلى ذلك، يسمح الإدماج (الإشراك) الرسمي لممثلي المعارضة للنظام باستقطاب وإدارة المعارضة من خلال التنازلات الانتقائية التي تقدم لأحزاب على حساب أخرى. أخيرًا، تعمل الانتخابات كقناة لتنظيم المنافسة داخل الحزب بين النخب الحاكمة، مما يزيد من اعتمادها على الهياكل غير الرسمية للسلطة. وعلى هذا النحو، تعمل الانتخابات على استقرار النظام السلطوي من خلال موازنة السيطرة وتجديد شبكات المحسوبية، وإدامة الاستقطاب في المعارضة، وتوزيع الموارد بشكل دوري داخل نخبه. في دراسته الأخرى، يوضح كوهلر[7] (٢٠١٨) أن قدرة الدولة هي عامل مهم في فهم نتيجة مثل هذه الآلية ومن يجني ثمارها. ففي المدن حيث كان الحزب الوطني قوياً، كان تقديم الخدمات يعمق من قوة الحزب. بينما في المناطق الريفية، عزز توفير الخدمات من قبل الدولة أثناء الانتخابات النخب المحلية التي ترشحت وفازت عدة مرات ضد مرشحي الحزب الرسميين، أدى هذا الوضع إلى اعتمادية أقل من هذه النخب المحلية على النظام، وبالتالي أثناء الثورة لم تحشد له الدعم الكافي وتخلت عنه، ولاحقاً عادت مرة أخرى لتلعب دوراً شبيهاً في ظل نظام السيسي.
لكن السؤال الآن من يصوت في هذه الانتخابات؟ ترى بليدز[8] (٢٠٠٦) أن الانتخابات تجرى في إطار من المحسوبية، حيث يتم حشد الناخبين ــ وخاصة الفقراء ــ من خلال شراء الأصوات أو الخوف أو الإكراه الاقتصادي أو الخطاب الديني والإعلامي. ومن المرجح أن يشارك الأميون والأفراد من ذوي الدخل المنخفض، الذين يستفيدون أكثر من الحوافز المادية، بشكل أكبر في التصويت. وجدت بليدز أنه في انتخابات ٢٠٠٠ و٢٠٠٥، كانت نسبة تصويت الأميين الفقراء أعلى بمرتين أو حتى ثلاثة من نظرائهم المتعلمين. ويرجع هذا إلى تراجع أهمية دور البرامج السياسية والأيديولوجية، مقابل هيمنة العلاقات الشخصية وشبكات المحسوبية على الانتخابات، وخاصة في المناطق الريفية. في حين يحجم المتعلمون الذين يتشككون من جدوى الانتخابات، أو ربما يقاطعونها بسبب واعي لإظهار غضبهم. في دراسة نويجنت وبروك[9] (٢٠٢٣)، حاولوا الإجابة عن سؤال “من يصوت بعد الانقلاب؟”. وجد الباحثان استمراراً لهذه العلاقة القائمة على المحسوبية، حيث تزيد نسبة التصويت في المناطق التي ترتفع فيها نسبة الأمية، وعادة ما يصوتون لمرشحي النظام. بالإضافة أنهما وجدا أن النتائج تظهر الأثر المستمر للولاءات الحزبية في السلوك الانتخابي بعد الانقلابات العسكرية. في الحالة المصرية، يُظهر تحليل أنماط التصويت قبل الانقلاب، والتي انقسمت بين “إسلاميين” و”علمانيين”، ارتباطًا قويًا بمستويات المشاركة الانتخابية بعد الانقلاب. على سبيل المثال، المناطق التي أظهرت دعمًا أكبر للإسلاميين خلال انتخابات الرئاسة في ٢٠١٢ شهدت معدلات أقل في الإقبال على التصويت، وعدد الأصوات الصحيحة، ودعم السيسي في انتخابات ٢٠١٤. تعكس هذه النتائج كيف أصبحت الهوية الحزبية أداة لفهم التغيرات السياسية وردود الفعل تجاه شرعية النظام. هذه الهوية، التي تم تعزيزها خلال فترة الديمقراطية القصيرة والمشحونة، اكتسبت أهمية إضافية نتيجة الانقلاب العسكري. بغياب الانقلاب، قد لا تكون الانقسامات الحزبية بهذا الوضوح في تفسير السلوك الانتخابي المستقبلي. في النهاية، تشير النتائج إلى أن القرارات المتعلقة بالمشاركة في الانتخابات، مثل الإقبال أو إبطال الأصوات أو التصويت للنظام، تعكس تفاعل المواطنين مع شرعية النظام ومع القوى السياسية الأوسع.
عادة ما حظيت الانتخابات باهتمام كبير في حقل العلوم السياسية ونشوء المدرسة السلوكية بطابعها الكمي، وهذا لما توفره الانتخابات من مادة معلوماتية غزيرة عن توزيع القوى والمعارضة والتهميش والأيدولوجيا والهوية وتفاعلها في السلوك والمشاركة السياسية. كما أشرت إلى كيفية عكس الانتخابات فيما بعد الانقلاب لامتداد الاستقطابات الأيدولوجية للحظة الثورة، وبالتالي يمثل هذا طاقة كامنة من شعب رأى أن أبرز طرق اعتراضه تتمثل في مقاطعة التصويت، وربما تظهر أنماط جديدة من التفاعل السياسي تتجاوز حالة الثورة، إدراك هذا قد يبنى عليه في حالة وجود مشروع سياسي، وهو ما تجلى في حالة التطوع الواسع لحملة طنطاوي من أنحاء الجمهورية، وخصوصاً في المحافظات الحضرية[10]. الدولة واعية هي الأخرى لهذا الشكل وأهمية الانتخابات، وهو ما تجلى في إدراك النظام لضعف المشاركة في انتخابات الرئاسة ٢٠١٨، وهو ما دفع النظام للاعتماد على الأجهزة الأمنية في انتخابات مجلس الشيوخ ٢٠٢٠، لأن الأجهزة الأمنية (في القلب منها الأمن الوطني) لديها العلاقات مع والمعرفة في التعامل مع العائلات خصوصاً في الأرياف التي مثلت سابقاً قواعد الحزب الوطني[11].
تمثل الانتخابات فرصة للتغيير وربما سقوط السلطويات وهو ما حدث في ربع الحالات التي درستها جيديز وأخرين، وربما تمثل الانتخابات البرلمانية فرصة للتغيير ضمن المنظومة بما لا يهددها، فقد يتجه النظام إلى إعطاء حوافز لبعض أحزاب المعارضة لاحتوائهم، وهو ما قد يخلق فرصة. على الجانب الأخر، يصعب التغيير في حالة الانتخابات الرئاسية، لأنها تعتبر تحدياً لرأس النظام مباشرة كما في تجربة أحمد طنطاوي، وبالتالي قد يكون الهدف من خوض الانتخابات الرئاسية إحراج النظام والضغط عليه، وربما فرصة لبناء تحالفات بين المعارضة. وهو ما حدث في حملة “لا” في تشيلي، التي كانت ضد إعادة تنصيب بينوشيه رئيساً للجمهورية عبر استفتاء شعبي. وعلى الرغم من عدم اعتراف بينوشيه بنتائجها، إلا أنها مثلت ضغطاً كبيراً وفرصة لتخلي المؤسسة العسكرية عن بينوشيه، وهو ما مهد لانتقال السلطة ديمقراطياً في العام الذي تلى الاستفتاء في ١٩٨٩، ولعبت هنا تكنولوجيا الاتصالات وبالأخص التلفاز دوراً حاسماً في فاعلية حملة “لا” وشعبيتها[12].
حملة أحمد الطنطاوي:
انطلقت حملة طنطاوي في ظل قيود كبيرة: تقييد الفضاء السياسي في مصر بشكل منهجي من خلال تدابير مثل السيطرة على وسائل الإعلام، وإضعاف أحزاب المعارضة في مصر، حتى باتت معارضة شكلية، بالإضافة إلى سجن الناشطين أو وجودهم في المنفى، والقوانين القمعية التي تستهدف كل أشكال التجمع/التنظيم سواء كان مهنياً أو عمالياً أو سياسياً. فالسؤال المطروح هنا على من سيستند طنطاوي؟
كان التحدي البيروقراطي للحملة متمثلاً في شرط تأمين التأييد من أعضاء البرلمان، والذي يسيطر عليه النظام. البديل كان جمع عشرات الآلاف من التوكيلات الشعبية. لم يكن لطنطاوي أن يتحصل على توكيلات من البرلمان على أي حال، ولم يكن أمامه غير التوكيلات الشعبية. صور طنطاوي من خلال خطابه أنه يختار الثانية لكونها تمثل تأييداً شعبياً، وستعطي شرعية وزخماً لحملته، وهو ما كان. ومن خلال حملته بدأت تتكون نواة لعمل سياسي شعبي، فتطوع في حملته ما يقارب العشرون ألفاً عبر الجمهورية أغلبهم من الشباب. مِثل هذه النواة كانت لتمثل فرصة لعمل قاعدي حقيقي، وهو ما تلاشت فرصته بسجن طنطاوي لاحقاً، ولكن يبقى خيال الفكرة موجوداً، وهو في حال وجود بديل يتحدى النظام، فيمكننا تصور أن الشباب لم يفقد الإيمان بالسياسة.
تمركز خطاب حملة طنطاوي على الإصلاح المؤسسي والشفافية والمسألة الاقتصادية. وكان هناك تركيز واضح على المستقبل والبديل بالإضافة إلى التركيز على نقاط ضعف النظام المتمثلة في الاقتصاد. استخدم طنطاوي منصات التواصل الاجتماعي للتواصل مباشرة مع الجمهور، فلم يكن لديه بديل، متجاوزًا بذلك قنوات الإعلام التقليدية التي تسيطر عليها الدولة. وتتشابه هذه الاستراتيجية حملات المعارضة في سياقات استبدادية أخرى، سواء في مصر كحالة محمد علي أو أليكسي نافالني في روسيا، ولكن جدواها في حملة رئاسية يبدو محدوداً، في حين قد تكون فعالة في حالة الحشد للتظاهر.
وعلاوة على ذلك، حاول طنطاوي توفير البديل، وإن كنت أظن أن الهدف كان إلقاء حجر في المياه الراكدة ليس إلا، كان طرح نفسه كبديل يهدف إلى توحيد مجموعات المعارضة المتباينة تحت قضية مشتركة، تتمركز حول التغيير. غيَّر في خطابه الناصري السابق، وغيرها من القضايا الاجتماعية، ليلعب دور الوسط الذي تجتمع عليه المعارضة أملاً في التغيير. ومع ذلك، فإن غياب الهياكل التنظيمية القوية والافتقار إلى الحماية القانونية لأنشطة المعارضة حد من قدرته على ترجمة هذا الخطاب إلى تعبئة واسعة النطاق. فضلاً عن ذلك، فإن غياب الدعم من أي من الأجنحة داخل نخبة النظام (العسكريين أو رجال الأعمال) لم تعطه الحماية التي لا يوفرها القانون أو السلطة الأمنية على أي حال. على الرغم من هذا، ظل طنطاوي يروج لنفسه على أنه البديل الديمقراطي المدني عبر التغيير السلمي الآمن، وهو ما يمثل رسالة طمأنة لأجنحة النظام لاحتواء التدهور الاقتصادي للبلد والتي قد يفضي إلى فوضى.
لم تكن لحملة طنطاوي فرصة في تحدي الواقع السلطوي لعدة أسباب: عدم التكافؤ في القوة بين الدولة وقوى المعارضة، مع غياب أي ضمانات من قبل الدولة ونخبها أو فاعلين دوليين. بالإضافة إلى عدم قدرته على استخدام الأزمة الاقتصادية بشكل كافٍ لحشد الشعب. ولاحقاً كان طوفان الأقصى كحدث إقليمي خطف الأنظار بما فيها بعض متطوعي حملته في أيامها الأخيرة والأشد حرجاً، تزامناً مع عرقلة النظام لعمل التوكيلات في مكاتب الشهر العقاري. انتهت الحملة بإعلانه عن الانسحاب من السباق الرئاسي، ولاحقاً اعتقاله، وهو ما لم يحظ بصدى شعبي لانشغال الناس بالوضع في غزة.
دروس من حملته:
قدمت الحملة دروسًا قيمة لحركات المعارضة المستقبلية، حيث حاولت الحملة صياغة سرديات موحدة بالتركيز على كالاقتصاد والتغيير السلمي الديمقراطي وأنه بديل آمن، تركز خطاب طنطاوي على المستقبل والأمل، في محاولة منه لتجاوز الاستقطاب[13] الذي يقسم تيارات المعارضة المختلفة. بالإضافة، مثلت الحملة محاولة لاستغلال كل وسائل المشاركة السياسية الرسمية والشعبية وفي القلب منها الرقمية، ولكن كان لهذا تحديات.
أولاً، وصلت حملته إلى الأفراد أكثر من الأحزاب أو التنظيمات السياسية. كان استخدام طنطاوي لوسائل التواصل نقطة قوة واضحة في جذب آلاف المتطوعين من الشباب داخل وخارج مصر. من ملاحظاتي، بدى أن أكثر الشباب استجابة هم الشباب الغير حزبي. يعود هذا لسببين في تقديري: الأول، لأن حالة الفضاء الرقمي -والتي كانت مركزية في حملته- تستهدف الأفراد أكثر من التنظيمات، حيث يعمل المجال الرقمي كمجال عام موازي يحتوي على أفراد ومجموعات، فيكون التفاعل الفردي في حالة طنطاوي وتقبله أسهل من المجموعات -التي توجد في فقاعات رقمية شبه منعزلة أحياناً-، وهذا يعود لكيفية عمل الخوارزميات على وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً، نحن نستهلك المحتوى الرقمي أفراداً، وتغيب أشكال التواصل الفعال خصوصاً في البيئة الأمنية في مصر. وهذا عكس التواصل مع التنظيمات/المجموعات، والتي عادة تحتاج لعمل على الأرض وهو ما حاول تداركه في جولاته داخل مصر، ولكنه لم يثمر بشكل فعال، فعلى الرغم من دعم بعض الشخصيات والتيارات المعارضة لطنطاوي، إلا أنها لم تترجم بحشد على الأرض. السبب الثاني يعود لمناخ الاستقطاب والريبة الذي يخيم على المعارضة المصرية. وعلى كل، يبقى أن الخطاب الرقمي قادر على التعبئة بشكل شبكي غير منظم، وبالتالي يصعب ترجمته كقوة على الأرض. ولكن تبقى حالة الحشد الرقمي كفرصة ومؤشر للمستقبل، على أن الشباب ما زال مهتماً بالسياسة، ولكن ينتظر الفرصة المناسبة.
ثانياً، غاب عن الحملة الدعم الإقليمي أو الدولي. تجربة طنطاوي تماثل تجارب شخصيات معارضة أخرى في أنظمة استبدادية، كحالات زعماء المعارضة في فنزويلا وبيلاروسيا أو حتى حالة أوكرانيا عام ٢٠١٤، ويتشابهون في مواجهة مزيج من العراقيل القانونية والتشويه في الإعلام ووسائل الدولة القمعية المختلفة كالاعتقال المباشر. ومع ذلك، فإن الاختلاف الأبرز، هو استفادة زعماء المعارضة في بعض السياقات من الدعم الإقليمي أو الدولي الكبير. فعلى العكس من هذه الحالات، عملت حملة طنطاوي في بيئة جيوسياسية داعمة للنظام ولا تضغط عليه إلا شكلياً، فمثلاً أعطت الحكومات الغربية الأولوية إلى حد كبير للتعاون الأمني مع نظام السيسي على المخاوف بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان. والمشهد أسوأ في الحالة الإقليمية، فالنظام أعاد تطبيع العلاقات مع كل من قطر وتركيا في الآونة الأخيرة، كما أن السعودية والإمارات ما زالا يدعمانه بقوة، ربما يكون الضغط الوحيد على النظام من السعودية والإمارات وحلفائه الدوليين (عن طريق صندوق النقد) في مسألة الاقتصاد العسكري، والذي يضغطون ليتراجع في مقابل مساحات أوسع تفسح المجال للقطاع الخاص والاستثمارات الخارجية. ولكن لا توجد أي بوادر في مسألة الضغط السياسي على النظام، وقد أدى هذا الافتقار إلى الضغط الخارجي إلى ضآلة حيز المناورة من طنطاوي وعدم قدرته على طرح نفسه كبديل للنظام.
ومن الجدير بالذكر، أن الإبادة في غزة أتت لترسخ النظام المصري إقليمياً ودولياً، فالنظام ظهر كفاعل مهم في ملف التفاوض وضبط معبر رفح، كما أن قمعه للإخوان وغيرهم بدا مبرراً للسيطرة على الشارع. وهو ما ظهر في تراجع الضغط الغربي الشكلي على مصر في ملفات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى ما يفوق ال٦٠ مليار دولار التي تحصلت عليها مصر في بداية العام الماضي من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والإمارات على هيئة قروض واستثمارات وشراء أصول.
كما أن تأثير الإبادة داخلياً غير واضح بعد، نعلم ترابط شعوب المنطقة، ونعلم احتمالية تمدد حالة الربيع العربي بنجاح الثورة السورية بالإطاحة بالأسد، وحالة طوفان الأقصى وتأثيرها، ففلسطين عادة ما حركت الماء الراكد في الإقليم، ولكن يبقى هذا نظرة متفائلة، فحالة السخط الشعبي وتفاوتها مع سياسات النظام تجاه فلسطين، كما يوجد غضب وضغط نفسي يشعر به المصريين تجاه حرب الإبادة في غزة، فعبر ٨٨٪ من المصريين أنهم يشعرون بضغط نفسي إلى درجة كبيرة في إحصاء للمركز العربي[14]، هذا السخط ليس كافياً لإحداث تغيير في غياب أي شكل من أشكال التنظيم السياسي والاجتماعي. ولربما كان على حملة طنطاوي -بخلفيته الناصرية- استثمار الحدث في خطابها الشعبوي الناقد للنظام، لعل هذا الاستثمار كان قادراً على إحاراج النظام وبث الروح في حملته، وبالتالي توحيد حملته وتحفيزها للمواصلة، بدلاً من الانصراف والخمول الذي أصابها مع بداية الأحداث، والتي كانت الأيام الأخيرة لجمع التوكيلات أيضاً.
خاتمة: تأملات من الخارج عن حملة طنطاوي:
تظهر العديد من الدراسات[15] كيف أن العمل السياسي في الخارج يمثل امتداداً للسياسة داخل الوطن، فعادة ما تشارك الجاليات (المصرية والعربية وغيرها) على المستوى الفردي والجماعي إسناداً للأحداث الكبرى داخل أوطانها كثورات الربيع العربي، تختلف أشكال المشاركة: كالفضاء الرقمي والتظاهر أمام السفارات وبناء جماعات ضغط وغيرها. هذه المشاركة تعود لأسباب شعورية تتعلق بالانتماء والواجب تجاه الوطن[16]. ولكن لعل من الملاحظ أن من أضعف حالات المهجر (الدايسبورا) تنظيماً هي المصرية، وهو يتعلق بسبب غياب المؤسسية في حالة المنفى المصري مقارنة بنظيراتها في اليمن وليبيا وسوريا مثلاً. وهذا يرجع لغياب الاستمرارية في حالة المنفى المصري، ففي حين توجه العديد من المصريين المعارضين للخارج، الإسلاميين في الحقبة الناصرية، والقوميين واليساريين في فترة السادات[17]، إلا أن هذه الحالة انتهت في عهد مبارك وعاد أغلب المنفيين إلى وطنهم، على النقيض من العديد من الدول العربية. أثَّر هذا على عدم وجود بنية مؤسسية قوية لمجتمع المهجر السياسي عند حالة النزوح الكبير للمعارضين بعد الانقلاب العسكري عام ٢٠١٣، يستثنى من هذه الحالة أقباط المهجر الذين بدأت هجرتهم في ظل السادات بسبب الأحداث الطائفية وتمركزوا ونظموا أنفسهم في الولايات المتحدة على وجه الخصوص، ولكن مجتمع المهجر المصري بدأ بالتشكل أثناء ثورة يناير وبعدها[18].
في العديد من المقابلات التي أجريتها في إسطنبول بين مجتمع المصريين المنفيين، وجدت علاقة وثيقة بين مظاهرات الداخل والخارج، فكما عبر أحدهم أنهم ينظمون المظاهرات كشكل من التضامن للمظاهرات وغيرها من الأحداث في مصر، فهو يدرك ضعف تأثير مظاهرات الخارج، ولكن شعوراً من الواجب والتضامن حتى أصبحت مظاهرات الخارج وكأنها امتداد لما يحدث في مصر. بالاشتراك في مشروع بحثي لإحصاء مظاهرات الخارج، وجدت علاقة طردية بين مظاهرات الداخل في ذكرى الأحداث -كرابعة وثورة يناير والانقلاب العسكري- وبين مظاهرات الخارج التي تتضاعف في مثل هذه الأيام استجابة لدعوات التظاهر في الداخل.
ولكن في نفس الوقت، أدى الحس التظاهري الرافض لشرعية نظام الانقلاب إلى التشكك في كل مظاهر السياسة الرسمية كالانتخابات، وهو ما دفع غالبية المعارضين وخصوصاً المنفيين إلى الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات واعتبار المشاركة إقراراً بشرعية نظام الانقلاب. يمكن القول إن المقاطعة تحولت من أداة سياسية تظهر الرفض والسخط إلى نظرة تشكيكية في هذا الشكل من المشاركة السياسية. وبهذا تحولت المقاطعة من فعل سياسي -تدعو إليها التيارات المعارضة-، إلى فعل سلبي بلا رسالة[19]. في دراسة عابدين وهشام[20] (٢٠٢٢) عن الذاكرة السياسية وتحولات المصريين المنفيين في تركيا، وجدا ما أسمياه بـ”الواقعية السلبية”، وهي نظرة العديد من الشباب المنفيين إلى السياسة على أنها تقوم على القمع، وأن القوى (العسكرية والاقتصادية) هي ما تحرك السياسة، وتقديم الوضع الاقتصادي على المشاركة السياسية، وأخيراً تراجع في تفضيل العمل الجماعي. على الرغم من كون هذه النظرة تتسم بالواقعية بإدراكها لأشكال القوى المختلفة في الدولة، إلا أنها سلبية وتفتقر إلى الفعل والمبادرة للتغيير.
وبالنسبة للانتخابات، فيجب إعادة تقييم الموقف منها، وإذا كان الغرض من الانتخابات في بدايات حكم السيسي، هو إضفاء الشرعية والصورة الديمقراطية الشكلية لنظامه، فربما تغير منطقها الآن إلى شكل من توزيع النفوذ داخل نظامه وإدارة صراعاته، وأيضاً كوسيلة لاحتواء بعض المعارضين وتدجينهم، وهو ما ذكرته في القسم النظري للورقة. لذلك، يجب قراءة الانتخابات في ظل المعطيات الجديدة، وتحديد كيفية التعاطي معها. فالمقاطعة قد تكون فعالة في المرحلة من بناء نظام السيسي لتحدي شرعيته، ولكنها لن تكون بنفس الفعالية في الأطوار اللاحقة من هذا النظام.
بالعودة لحملة طنطاوي، يمكن ملاحظة أن المنفيين المصريين وتنظيماتهم لم تشارك بفعالية في حملته، تتجلى هذه الملاحظة في تراجع دور الحملة إعلامياً وعدد المتطوعين وحتى في جمع التوكيلات في كلاً من إسطنبول وبرلين وإنجلترا، وهي المدن الثلاث التي تعتبر من عواصم المنفيين المصريين سواء كانوا إسلاميين أو علمانيين. في حين نشطت الحملة في أماكن تمركز المهاجرين المصريين الاقتصاديين كالسعودية أو الإمارات، وهو ما يمكن ملاحظته من عدد المتطوعين لجمع التوكيلات هذه البلدان من خلال صفحة الفيسبوك لحملة طنطاوي. وقد يعود هذا لأسباب ذكرتها سابقاً وهي: أولاً، تشكك المجموعات السياسية المنفية من الانتخابات ونظرتهم السلبية لها كما أوضحت في الفقرتين السابقتين. ثانياً، نجاح الخطاب في الفضاء الرقمي في جذب الأفراد لا المجموعات، ثالثاً، وجود حالات من الشللية التي لم تتجاوز الماضي باستقطاباته، وهذه الحالة لم يقدر طنطاوي على تجسيرها بشكل كافٍ. وعلى كلٍ، تغيب الدراسات التي تتناول حملة طنطاوي علمياً ونقدياً، ومن أجل التوصل لفهم أفضل، سيتطلب الأمر إجراء مقابلات مع العديد من متطوعي حملة طنطاوي وكذلك الذين لم يتفاعلوا مع الحملة.
في الختام، يجب أن ينظر المنفيين إلى الانتخابات كفرصة لفهم النظام وشبكات محسوبياته في أنحاء الجمهورية، ودور الأرياف في هذا النظام، وإدراك وسائل الحشد التي يتبعها النظام. ويجب أن ينظر لها بإيجابية على أنها فرصة لاستغلال تناقضات النظام وأجنحته التي ربما تُسوي صراعاتها عبر الانتخابات، مما قد يتيح نافذة لتغيير. كما أن الانتخابات فرصة للتنظيم السياسي وبناء التحالفات وتجسير الاستقطاب بين التيارات المختلفة، وبين معارضة الداخل والخارج، وبين الإصلاحيين والثوريين، لأن الانتخابات تعكس احترام قواعد اللعبة وتحديها في آن، وتستخدم للضغط وإحراج النظام، وتوسيع دوائر الغضب الشعبي، والتي قد تؤدي للتغيير في حال توازيها مع الضغط الداخلي أو الدولي أو تناقضات داخل النظام نفسه. وعليه، فتنظيم معارضة المنفى لاستثمار فرصة كالانتخابات وأشكال المشاركة السياسية المختلفة أمر لا غنى عنه.
المشاركة السياسية في ظل الأنظمة السلطوية: الانتخابات ومعارضة المنفى
[1] Isin, E. F. (2008). Theorizing Acts of Citizenship. In: E. F. Isin & G. M. Nielsen (eds.) Acts of Citizenship (pp. 15–43). Palgrave Macmillan. & Isin, E. F. (2017). Performative Citizenship. In A. Shachar, R. Bauböck, I. Bloemraad & M. Vink (eds), The Oxford Handbook of Citizenship (pp.500-523). Oxford University Press.
[2] Geddes, B., Wright, J. G. & Frantz, E. (2018). How Dictatorships Work: Power, Personalization, and Collapse. Cambridge University Press.
[3] في ورقتها عام ٢٠٠٥ والتي ضمنتها لاحقاً للكتاب، Geddes, B. (2005). Why Parties and Elections in Authoritarian Regimes? Paper presented at the annual meeting of the American Political Science Association.
[4] Blaydes, L. (2008). Authoritarian Elections and Elite Management: Theory and Evidence from Egypt. Prepared for delivery at the Princeton University Conference on Dictatorships.
[5] Blaydes, L. (2011). Elections and distributive politics in Mubarak’s Egypt. Cambridge University Press.
[6] Koehler, K. (2008). Authoritarian Elections in Egypt: Formal Institutions and Informal Mechanisms of Rule. Democratization, 15(5), 974-990.
[7] Koehler, K. (2018). State and Regime Capacity in Authoritarian Elections: Egypt before the Arab Spring. International Political Science Review, 39(1), 97-113.
[8] Blaydes, L. (2006). Who Votes in Authoritarian Elections and Why? Determinants of Voter Turnout in Contemporary Egypt. In Annual Meeting of the American Political Science Association. Philadelphia, PA.
[9] Nugent, E. R., & Brooke, S. (2022). Who Votes after a Coup? Theory and Evidence from Egypt. Mediterranean Politics, 28(4), 611–638.
[10] منشور لحملة أحمد طنطاوي يوضح عدد المتطوعين وهو ١٨٣٣٤ وتوزيعهم الجغرافي. الرابط.
[11] مجلس الشيوخ.. الخلطة الأمنية للعملية الانتخابية. مدى مصر، ٦ أغسطس ٢٠٢٠. الرابط.
[12] González, F., & Prem, M. (2018). Can Television Bring Down a Dictator? Evidence from Chile’s “No” Campaign. Journal of Comparative Economics, 46(1), 349-361.
[13] خطاب طنطاوي اتسم بكونه متجاوزاً للاستقطاب مع المعارضة، ولكنه كان شديد الشعبوية والاستقطاب تجاه رأس النظام. هذا متفهم وربما فعال في ظل الأنظمة السلطوية. فالأنظمة السلطوية تعمل على نزع السياسة من المجتمع وأفراده، وهذا ما يتحداه الخطاب الشعبوي بقدرته على تسييس الناس وتجييش عواطفهم، وبالتالي إعادة الاعتبار للسياسي. للقراءة عن هذه الفكرة: Mouffe, C. (2011). On the Political. Routledge.
[14] اتجاهات الرأي العام العربي نحو الحرب الإسرائيلية على غزة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الرابط.
[15] Moss, D. (2021). The Arab Spring Abroad: Diaspora Activism Against Authoritarian Regimes. Cambridge: Cambridge University Press. & Müller-Funk, L. (2018). Egyptian Diaspora Activism During the Arab Uprisings: Insights from Paris and Vienna. Routledge.
[16] Müller-Funk, L. (2020). Fluid Identities, Diaspora Youth Activists and the (Post-)Arab Spring: How Narratives of Belonging Can Change over Time. Journal of Ethnic and Migration Studies. 46:6, 1112-1128.
[17] معتز حجاج (٢٠١٦). التغريبة الثالثة.. عن هجرة ورحيل المصريين غير الطوعية للخارج. الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان. الرابط.
[18] Pagès-El Karoui, D. (2015). The Arab Spring: A Revolution for Egyptian Emigration?. Revue européenne des migrations internationales, 3(4), 146a-169a.
[19] ما زالت المعارضة الإيرانية الموالية للشاه تقوم بحملات لمقاطعة الاستحقاقات الانتخابية في إيران، والتي كانت أخرها الانتخابات الرئاسية في يوليو ٢٠٢٤. ونظمت هذه المعارضة المظاهرات في المنافي أمام السفارات والقنصليات، لتنتقد وتتحرش بالإيرانيين الذي ذهبوا ليدلوا بأصواتهم، وكانت حملتهم تتهم المصوتين بأنهم يضعون أصابعهم في دم الشهداء. بعد ٤٦ عاماً من سقوط الشاه، ترى هذه المعارضة أن التصويت يعطي شرعية للنظام الإيراني ويدعون لمقاطعتها.
[20] Abdin, O. & Hisam, B. (2022, November 3-4). Political Memory and Migration Experience: Transformations among Egyptian Migrants in Turkey (Paper). Political Exile and Arab Migration in Turkey Conference by IFEA, Istanbul, Turkey.