منظمة مجموعات التحفيز

المشهد الإسلامي المصري منذ ثورة يناير ٢٠١١: الإسلام في خريطة النشاط الشبابي

مقالات اخرى

المشهد الإسلامي المصري منذ ثورة يناير ٢٠١١: الإسلام في خريطة النشاط الشبابي

Yale)محمد عماشة، باحث دكتوراة في علم الاجتماع بجامعة ييل

بحث المشهد الإسلامي المصري منذ ثورة يناير ٢٠١١: الإسلام في خريطة النشاط الشبابي 

 

 

مقدمة

مثلت النكسة عام ١٩٦٧ نقطة تحول في المشهد الثقافي العربي عامة، والمصري خاصة. إذ مثلت الهزيمة وما تبعها من تغيرات سياسية مع السادات ضربة قاصمة للمشروع الناصري وأحدثت حالة جديدة من التساؤل العميق حول جذور الأزمة في بلادنا. صاحب هذا صعود المشروع الإسلامي مع جيل الصحوة بتنوعاته ليقدم إجابات ويملأ الفراغ، وظل صاعدًا حتى تقلد بعض ممثليه سدة الحكم مع محاولة الانتقال الديموقراطي التي صاحبت ثورة يناير ٢٠١١. لكن الثورة أيضًا فتحت الباب على مصراعيه لمساءلة أجوبة الحركات الإسلامية وتقديم أجوبة أخرى. لكن هذا الانفتاح السياسي والثقافي في المجال العام لم يستمر طويلًا مع انقلاب يوليو ٢٠١٣ وما صاحبه من تضييق على الحقوق والحريات، وستكون الحالة الدينية في مصر إحدى الجبهات التي يسعى للسيطرة عليها باعتبارها مساحة حَوَت عددًا كبيرًا من مناهضيه. لكن الحالة الدينية الإسلامية في مصر مكونة من خطابات وتفسيرات ومجموعات متنوعة اقتربت من الثورة والانقلاب بأشكال مختلفة وذهبت بها رياح السنين إلى اتجاهات عديدة. ولذا تحاول هذه المقالة أن تقدم مسحًا عامًا لخرائط الفاعلية الإسلامية الشابة منذ الربيع العربي.

يمكننا تصور المشهد الإسلامي كحقل يضم فاعلين وفاعلات كُثُر، يجمعهم الاعتقاد بأهمية الإسلام وإن اختلفت تفسيراتهم عنه وتنافسوا فيما بينهم لتكون كلمتهم العليا[1]. والمشهد الإسلامي جزء من حقل ثقافي أكبر يضم فاعلين بتوجهات فكرية أخرى لا تعطي الدين نفس الأهمية، والكل بطبيعة الحال ينافح عن منهجه الذي يؤمن بصلاحه ويأمل أن يسود. لكنّ هذا التنافس الطبيعي بين جماعات فكرية، لا تحدِّد نتيجتَه نقاشاتٌ علمية وحججٌ فكرية وحسب. فالسلطة والمال غالبًا ما يتدخلون في موازين القوى بين الجماعات الفكرية المختلفة، خاصة في الحقول الثقافية التي لا استقلال فيها عن تدخلات رأس المال أو الدولة.

وتدخل الدولة في المجال الثقافي (فضلا عن المجالات الأخرى) لا تخطئه عين في بلادنا، فتدعم الدولة بعض التيارات الفكرية بإفساح المجال العام لهم وما يقتضيه ذلك من دعم لوجستي كإنشاء المؤسسات والشبكات، والظهور في الإعلام، والتواجد في المساجد والجامعات، في حين تضيق النطاق على تيارات فكرية أخرى تضييقًا يصل إلى تجريم الانتماء لتلك الأفكار وحبس المنتمين إليها، بل وتصفيتهم.

غير أن التدخل هذا لا يضمن ظهور التيارات الفكرية المدعومة تلك على منافسيها. فالخلق غالبًا ما تستهويهم صورة صاحب الفكر المستقل، وما إن يتبين لهم أن ظهور أحد التيارات الفكرية على الأخرى كان سببه سياسيًا لا فكريًا، حتى تساورهم الشكوك حول شرعيته الفكرية. لذا فإن تسليط الضوء على أدوات التنافس غير الثقافية وسيلة يستخدمها الكثير للنيل من خصومه: السلفية والدعم السعودي، الصوفية وسياسات الحادي عشر من سبتمبر، الجهاديين والدعم الأمريكي في مواجهة السوفييت، والإخوان والدعم القطري والتركي، اليساريين والدعم السوفييتي، والليبراليين والدعم الغربي، وهلم جرا.

ينقلنا هذا لأهمية النظر في العلاقة بين المحلي والإقليمي والعالمي، وإن كان الحقل الإسلامي المصري موضع النظر الرئيس. فما يجري على المصريين ليس منفكًا بأي حال عن التطورات العالمية. وإن كان واضحًا في سياسات الدولة المصرية التي تتأثر بعلاقاتها الدولية، فهو بازغٌ ولا شك في التفاعل اليومي الفردي مع العالم الخارجي عبر وسائل التواصل. فبعد أن كانت معظم مصادر الناس الثقافية محلية (الأسرة، المدرسة، المكتبة، المقهى، الجامع، وما يُعرض على شاشات قناة الدولة الرسمية)، تقزّمت الحدود والموانع بين أي فرد متصل بالإنترنت وأي ثقافة موجودة عليه، مهما كانت غريبة، مستهجنة، أو ممنوعة في البيئة المحلية، فضلا عن الهجرات المصرية التي أعقبت انقلاب ٢٠١٣ والتي تركت كثيرًا من الفاعلين والشخصيات العامة خارج مصر، وما يعني هذا من تأثر خطابهم بواقع معيشتهم في دول أخرى ذات ثقافات وسياسات وقوانين مختلفة.

من الضروري أيضًا الانتباه أن العلاقة بين الإيمان والعمل شديدة التركيب ويصعب التعميم في تأثير كل منهما على الآخر. فالإيمان بفكرة ما قد تحدو بالإنسان للعمل بمقتضاها. غير أن توقع فعل الإنسان بناء على ما يعتقده ليس بالأمر الهين. فالمرء لا يؤمن بفكرة واحدة منعزلة ويحيا لها، بل غالبا ما يؤمن بأفكار كثيرة تختلف في تأثيرها عليه حسب السياق، وقد تتناقض مع بعضها ويكون الخيار صعب التنبؤ به، وقد تسمح الفكرة بمساحة فعل واسعة يكون الفصل فيها على مقتضيات عملية لا فكرية. ليس هذا فحسب، فالعمل والتجربة لهما دور في إعادة النظر فيما يتبناه المرء من أفكار، وهذا واضح في المراجعات والتحولات الفكرية التي يقوم بها الناس بعد تقييم تجاربهم بشكل واعٍ أو غير واع. والأمر كذلك حتى في سياقات تكون فيها لإكراهات الواقع دور أكبر من الأفكار المجردة.

والمرء أحيانًا ينزح إلى أفكار تعبر عما يفعله، لا العكس. لذلك فالفعل البشري معقد ولا يمكن تعميم مدى تأثير الأفكار، أو السياق، أو المصالح على الفعل البشري. لذا فنقاشنا عن أفكار معينة تتبناها مجموعات فكرية وتتمايز بها عن غيرها مهم، لكنه أحيانًا لا يكفي لفهم مواقف تلك المجموعات والأفراد.

رغم ذلك سيكون نقاشنا عن التطورات الدينية في مصر بالنظر في المدارس الفكرية في الحقل الإسلامي (السلفية، الأشعرية-الصوفية، الإخوان، ما بعد الإسلامية، الجهادية، إلخ) بوصفها أنماطًا عامة للتدين، فكرًا وممارسة. لكن تلك الأنماط العامة التي يجتمع الفاعلون فيها على تصور ما لقضية دينية محورية بالنسبة لهم لا يعني -بأيِّ حال- اتفاقهم على كل القضايا. فداخل المدرسة الفكرية الواحدة ترى اختلافا جوهريًا تجاه قضايا محورية متعددة كالسياسة مثلا (انظر الفرق بين علي جمعة المهادن للسلطة وتلميذه عماد عفت الذي يلقب بشيخ الثوار، رغم أن كليهما ينتميان للمدرسة الأزهرية الأشعرية الصوفية).

أضف إلى هذا أنه يجب الاقتراب من تلك المجموعات والأفراد بوصفهم بشرًا يتغيرون باستمرار ويتبنون معانٍ متباينة ويعيدون تعريف أنفسهم وتعريف ما يؤمنون به بناء على الأحداث والتجارب التي يمرون بها. وسيظهر هذا معنا في التحولات التي مر بها الشباب المصري بعد الربيع العربي. فقد تجد فردًا واحدًا مر بكل تلك المدارس في السنين العشر الماضية، وقد تجد مجموعة ما تخلط بين تلك المدارس بأشكال متباينة. ولذا فسيمزج العرض بين التطور التاريخي والأفكار العامة التي تتبناها مجموعات مختلفة مع تلك التطورات.

يهدف هذا المقال إلى رسم صورة عامة للحالة الدينية في مصر منذ الربيع العربي بجمع الدراسات التي أُجرِيَت في العقد الماضي عن التدين في مصر، ونسجها معًا في إطار أعمّ، بما في ذلك دراساتي التي ترصد لكثير من المجموعات المذكورة أدناه، أو مقابلات مع شاهدين وشاهدات على بعض أجزاء الحالة الدينية وقت الثورة وما بعدها. أخيرًا فإني حرصت في عرضي لكل مجموعة أن أبيّن كيف ترى هي الأمور، مستخدمًا مصطلحاتها وسرديتها، دون حكم معياري عليها، لكي يستشعر القارئ منطقها ومذهبها. غير أني أيضًا أحاول عرض السياق الموضوعي بحيث تكتمل الصورة قدر الإمكان. يبدأ القسم التالي بلمحة تاريخية مختصرة للجذور التنظيمية للفاعلية الإسلامية وقت الربيع العربي والتي يركز القسم الذي يليه على التفصيل فيها ورسم خرائطها ورصد تطورها في العقد الماضي.

الحالة الإسلامية في مصر ما قبل الربيع العربي: القرن العشرين

تأسست جماعة “الإخوان المسلمين” على يد حسن البنا عام ١٩٢٨ في مصر لتمثل تصوره عن الإسلام كدين شامل لكل مناحي الحياة: تزكية النفس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمشاركة السياسية، وتوحيد الأمة، وجهاد المحتل. وقد انتشرت الجماعة داخل القطر المصري وخارجه، وشاركت في حرب فلسطين عام ١٩٤٨، لكنّها سرعان ما اصطدمت بالقصر اصطدامًا انتهى باعتقالات واسعة لأنصارها واغتيال مؤسسها. وكان لجناحها المسلح المسمى بالتنظيم الخاص دور في هذا الصدام بعد حادثة اغتيال قام بها أحد أعضاء التنظيم -وإن استنكرها البنا-.

ورغم التوافق المبدئي الذي كان بين الإخوان والضباط الأحرار الذين أنهوا الملكية وأسسوا الجمهورية، سرعان ما حل الصدام، لتظل الجماعة تحت قمع الدولة الناصرية الذي طال مخالفيها بتنوع توجهاتهم الفكرية. وسيطور سيد قطب فكره المُفاصِل في سياق هذا القمع، وهو فكر سيرفضه بعض مفكري الإخوان حينها. ومع رغبة السادات بتوطيد حكمه بطي صفحة الناصرية أفسح المجال للإسلاميين لمواجهة الناصريين واليسار، وسيخرج الإخوان المسلمون من السجون في بداية السبعينات ليعيدوا بناء الجماعة باستقطاب قطاع من شباب الصحوة الإسلامية في الجامعات المصرية الذين كانوا يسمون أنفسهم الجماعة الإسلامية. مع هذا التأسيس الجديد نمت نشاطات الجماعة المجتمعية (كالأنشطة الدعوية في الجوامع، والأنشطة الخيرية، والفاعليات الاجتماعية) والسياسية (مثل المشاركة في انتخابات النقابات والانتخابات البرلمانية) لتصبح أكبر فاعل سياسي معارض قبيل ثورة يناير، رغم القمع المتفاوت الذي نالها تحت حكم السادات ومبارك. في تلك الفترة قدمت الجماعة نفسها تيارا إسلاميا وسطيا ينبذ العنف وينادي بدولة مدنية ديمقراطية ذات مرجعية إسلامية[2].

كان للسلفية أيضًا دور محوري في الحقل الإسلامي المعاصر الذي شهد بروز الخطاب السلفي بوصفه نقدا لأنماط التدين التي كانت سائدة حتى أواخر القرن التاسع عشر، ودعا للعودة إلى ينبوع الشرع الصافي في القرآن والسنة كما فهمهما السلف، دون زيادة أو تكلف[3]. وكان للمعتقدات الشعبية وكثير من الممارسات الصوفية نصيب من النقد السلفي بوصفها خرافات وبدعا ما أنزل الله بها من سلطان. وانتقد الخطاب السلفي نظيره التاريخي المتمثل في التراث الكلامي الأشعري الذي عدّه دخيلًا على اعتقاد السلف الأوائل، وامتد النقد للتمذهب الفقهي، في دعوة إلى اللامذهبية فيما سُمي بفقه الدليل. وقد تمأسست السلفية كجمعيات في مصر مبكرًا. فتأسست “الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية” عام ١٩١٢ (وإن كانت في مبتدئها أشعرية في العقيدة) و”جمعية أنصار السنة المحمدية” عام ١٩٢٦، وقد ابتعدتا عن السياسة صارفين الجهد إلى نشر دعوتهم من خلال جوامعهم ومطبوعاتهم التي قدمت للقراء ابن تيمية وابن كثير وغيرهما من أعلام المدرسة السلفية[4]. ستلتقي تلك الجهود الدعوية مع موجة التدين التي أعقبت النكسة، لتنتج جيلًا سلفيًا، هو جيل الصحوة في السبعينيات والذي انتشر في الجامعات المصرية باسم “الجماعة الإسلامية”. مع تعرض هذا الجيل لكتابات سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، وخروج الإخوان من السجون، ونمو المعارضة لصُلح السادات مع إسرائيل، وسيأخذ هذا الجيل منحىً سياسيًّا، وسينضم كثير منهم إلى الإخوان بعد مفاوضات مع بعض قياداته وستخفت جوانب من سلفيتهم رويدًا رويدًا. آثرت مجموعة أخرى في الإسكندرية البعد عن السياسة، وأنشأت ما يعرف الآن “بالدعوة السلفية”، والتي حَرَّمَت المشاركة السياسية تحت نظام سياسي لا يحكم بالشريعة، وقد توسعت حتى أصبحت قبيل الثورة أكثر الجماعات السلفية تنظيمًا، حيث كان التيار السلفي شديد التنوع دون إطار تنظيمي جامع. سيظل المشهد السلفي في تطور ليشمل التيار المدخلي الذي يؤكد على مسألة طاعة ولي الأمر، وسيظهر أيضًا دعاة الفضائيات—مثل محمد حسان ومحمد حسين يعقوب—الذين أصبحوا أيقونات للحالة السلفية على القنوات السلفية التي صعدت قبيل الثورة كـ”قناة الناس”. اهتم الخطاب السلفي في تلك الفترة بقضية الهدي الظاهر كاللحية والجلباب والنقاب، وشدّد على سمت اجتماعي محافظ.

عودة للسبعينيات، ففي حين اتجه بعض شباب الإسلاميين للإخوان واتجه آخرون لتشكيل “الدعوة السلفية”، رأى آخرون في صعيد مصر أن الإخوان متماهون مع السلطة، وفضّلوا أن يستكملوا مسيرتهم مستقلين، ليشكلوا جماعة تحمل الاسم الأصلي لجماعات الطلاب—”الجماعة الإسلامية”. ورغم أن أنشطتهم كانت دعوية في الأساس، سيتطور استخدامهم للقوة في عراكهم مع اليساريين حول فرض السمت الإسلامي في حرم الجامعة، وسيتم تنظير ذلك مع الوقت تحت مصطلح الحسبة[5]. سيأخذ هذا منحىً أكثر جدية مع السياسات الأمنية السلطوية التي اتخذها النظام عام ١٩٧٧—ومن ضمنها منع انتخابات الطلاب—في سياق انتفاضة الخبز وزيارة السادات لإسرائيل، وسيبرز للجماعة الإسلامية أن تطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية وتحرير الأمة لن يتأتى إلا بحمل السلاح على من لم يحكم بشرع الله، خاصة بعدما عرض عليها محمد عبد السلام فرج وشبكة من الجهاديين التعاون لقلب النظام. لكن فرج لم يكن الأول في تيار ما سمي بتنظيم الجهاد الذي كان في الواقع خلايا لا يؤطرها إطار تنظيمي جامع، وكانت أنويتها إما أناس ذوو موقف إيديولوجي حول مركزية القوة—وقد كانت الانقلابات العسكرية هي النمط الشائع حينها للتغيير— أو من تدفعه حميته للثأر من فظائع سجون عبد الناصر، سواء كان ممن عُذّب أو سمع عن تعذيب آخرين[6]. نفذت إحدى تلك الخلايا هجوم الفنية العسكرية عام ١٩٧٤، وسيتكلل التعاون القصير بين الجماعة الإسلامية ومجموعة فرج في عملية اغتيل فيها السادات عام ١٩٨١، والتي جاءت كردة فعل غير مُعدّة سلفًا على الهجمة الأمنية التي قام بها النظام آنذاك. سيعيد أيمن الظواهري وسيد إمام تشكيل بعض أعضاء شبكة تنظيم الجهاد في باكستان وأفغانستان وستنفذ بعض العمليات في مصر في التسعينيات، وستعلن الجماعة توقف عملياتها في مصر عام ١٩٩٥، وسينضم الظواهري لتنظيم القاعدة في ٢٠٠١. قامت الجماعة الإسلامية أيضًا بعمليات في التسعينات، لكن بداية الألفية ستشهد مراجعات فكرية بين قيادات الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد، ارتأوا فيها أن المفاسد المترتبة على العمليات الجهادية أكثر من المصالح المبتغاة، وقد بدأ الإفراج عن أعضاء وقيادات من الجماعتين بعد ٢٠٠٧[7].

ظهرت كل تلك التطورات في تفاعل مع الأزهر الذي حاولت الدولة السيطرة عليه منذ محمد علي بتأميم أوقافه ومركزة إدارته وإنشاء تعليم وقضاء مدنيَّين منفصل عن التعليم والقضاء الدينيَّين، ما قلل من فرص الأزهر في استجلاب الطلاب وتوظيفهم. على الصعيد الشعبي، كان الأزهر أيضًا موضع نقد من بعض قادته كمحمد عبده فيما يتعلق في قضايا التقليد والاجتهاد، إلى جانب النقد السلفي الذي أسلفنا ذكره والسياسي الذي سنفصل فيه. أخضع نظام عبد الناصر الأزهر بحزمة قوانين أحكمت سيطرته: فأمّم كل الأوقاف وأخضعها لوزارة أسماها الأوقاف، وألغى القضاء الشرعي، وأدخل ممثلين لأجهزة ووزارات حكومية في إدارة الأزهر، وجعل اختيار شيخ الأزهر بالتعيين الحكومي، وأبعد كل من عارض تلك التغييرات من داخل الأزهر[8]. أضف إلى هذا محاولات الحكومة تأميم الجوامع لقطع الطريق على أصوات أخرى غير الأئمة الأزاهرة العاملين بالأوقاف (٢٤٪ من الجوامع في مصر كانت مؤممة أو مدعومة من الحكومة في عام ١٩٦٢، ثم ٤٦٪ في ١٩٨٢، ثم ٧١٪ في ١٩٩٤).

لكن إصلاحات عبد الناصر أيضًا زادت من ميزانية الأزهر بشكل كبير ما جعله قادرًا على التوسع وجذب مزيد من الطلاب من مصر وخارجها، خاصة بعد أن وسّعت كليات الأزهر نطاقها لتشمل أخرى غير شرعية كالطب والهندسة والقانون، وبهذا انتزع عبد الناصر سندًا شرعيًا لسياساته الاشتراكية والعروبية، ولصراعه مع الإخوان، كما سيفعل السادات ومبارك لشرعنة سياساتهم الخارجية والاقتصادية النيو ليبرالية. لكن هذا أنتج جيل الصحوة الذي رأى الأزهر جهازًا حكوميًا لا استقلال لكلمته، فالتفت إلى الجمعيات السلفية ومنها إلى ما أسلفنا. ستحاول الحكومة دفع الأزهر لكبح جماح الجماعات المسلحة، لكن غياب شرعية الأزهر عند تلك الجماعات جعل الحكومة تدرك أن استقلال الأزهر جزء من قوته، فانتهز شيخ الأزهر جاد الحق ذلك وعارض الحكومة في قضايا الختان، وتوصيات مؤتمر السكان عام ١٩٩٤ فيما يتعلق بقضايا الجنس، كما شارك الأزهر في الرقابة على الأصوات التي رآها خارجة عن الدين كنصر أبو زيد، حتى أن مجلس الدولة منح الأزهر حق الرقابة على المواد التي تصدرها وزارة الثقافة.

لكن معارضة القيادة الأزهرية ستعاود أدراجها بموت جاد الحق، وتعيين مبارك محمد حسين طنطاوي الذي تبنى آراء موافقة لسياسات الحكومة واتخذ إجراءات إدارية ضد من عارض خطه الموالي للسلطة. وستظل قيادة الأزهر هكذا حتى أشهر قليلة قبيل الثورة حين توفي طنطاوي وعين مبارك أحمد الطيب خلفًا له في مشيخة الأزهر.

في تلك الأجواء في عهد السادات ومبارك، ستتبلور مجموعة فكرية تُعرف بمدرسة “الإسلام الحضاري”، لتقدم ما تراه خطابًا وسطيًا أكثر استقلالًا من الأزهر والجماعات السلفية المنزوية عن السياسة وأكثر اعتدالًا من التيارات السلفية الحركية، وسيتبنى الإخوان كثيرا من مقولات هذه المجموعة، وسيكون لبعض ممثلي الإسلام الحضاري دور في المراجعات الفكرية للجهاديين. نشطت هذه المجموعة في مؤسسات كمركز الدراسات المعرفية التابع للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومركز الحضارة للدراسات السياسية، وجمعية مصر للثقافة والحوار، والتي تناولت إشكالات الاستبداد السياسي، وتجديد الفكر الإسلامي، والعلاقة مع الغرب بطرح نقدي يجمع بين العودة للتراث والانفتاح على العلوم الاجتماعية المعاصرة.

وقد كان تشكل المجموعة متنوعًا ليجمع علماء أزاهرة لهم اتصال قديم بالإخوان كمحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وحسن الشافعي، ورجال دولة وأكاديميين كان لهم خلفيات يسارية كطارق البشري ومحمد عمارة وعبد الوهاب المسيري، وأساتذة في القانون والعلوم السياسية كمحمد سليم العوا ومنى أبو الفضل ونادية مصطفى وسيف عبد الفتاح.

كان من ضمن هذه المجموعة أيضًا علي جمعة الذي سيمثل لدى كثيرين في تلك الفترة العالم المستقل، والمفكر المستنير، والشيخ الصوفي، والمنافح عن التراث والمنهج الأزهري والمدرسة الأشعرية ضد متشددي السلفية. سيُقنع جمعة الحكومة في ١٩٩٨ بإعادة فتح أروقة الأزهر ليُعلّم فيها الأزاهرة عامة الناس من المهتمين بطلب العلم كبديل للسلفيين، وسيعينه مبارك مفتيًا لمصر عام ٢٠٠٣ لتصبح دار الإفتاء المصرية مركزًا عالميًا أسس فيه جمعة لمدرسته من خلال طلابه الذين شغلوا المناصب فيها[9]. ورغم أن آراء جمعة السياسية كانت في اتساق مع سياسات الحكومة -ما جعله موضع نقد الصحافة والإخوان والسلفيين- فعلاقاته مع مجموعة الإسلام الحضاري أبقت له سلطة فكرية بين بعض المعارضين الإسلاميين خاصة الشباب.

سيمتد تأثير جمعة أيضًا خارج مصر خاصة في الغرب، في وقت تَوجه فيه المزاج الغربي نحو التصوف كبديل معتدل للإسلام المتطرف بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وستقوى علاقة جمعة بمؤسسة طابة التي أسسها الحبيب علي الجفري في ٢٠٠٥ بدعم إماراتي لتكون شبكة فاعلة للمتصوفة في الشرق والغرب[10].

أما المشهد الصوفي في مصر أكبر من هذا بكثير، وما زلنا في حاجة إلى دراسات تاريخية عن تطور التصوف في مصر الحديثة، خاصة مع تنوعاتها الداخلية. وقد بدأت مركزة إدارة الطرق الصوفية مع أسرة محمد علي التي ستعين شيخًا ليمثل كل الطرق الصوفية، وستحاول مركزة موارد الطرق بتوزيع الموارد عليها بشكل مركزي بعد أن كانت مواردها الأساسية من مريديها، وستنشئ مجلسًا يضم شيخ المشايخ وأربعة من مشايخ الطرق بالانتخاب[11]. سيشهد هذا التنظيم الإداري تغولًا أكبر من الدولة مع السادات الذي أعطى الرئيس صلاحية اختيار شيخ المشايخ، وجعل المجلس الأعلى للتصوف مركزا لإدارة الطرق الصوفية التي تزيد عن سبعين في مصر، وسيكون المجلس من عشرة منتخبين من مشايخ الطرق، وممثلين عن وزارات الداخلية والثقافة والأوقاف والأزهر. ورغم بعض الخلافات حول تعيين بعض الأشخاص (مثل قرار مبارك تعيين عبد الهادي القصبي -عضو الحزب الوطني آنذاك- شيخ المشايخ) أو أمور أخرى كتأميم ممتلكات بعض الطرق أيام عبد الناصر، فإن الطرق الصوفية لم تتخذ منحى سياسيًا (على عكس المتصوفة في بلاد إسلامية أخرى)، والتزمت خطا مهادنًا وأحيانًا داعمًا للسلطة[12]. والخطاب الصوفي متجذر في التاريخ الإسلامي، وفيه تركيز على تزكية النفس وفعل الخير والاتصال بأولياء الله الصالحين، وترى الصوفيةُ السلفيين دخلاء على المجتمع المصري وسببًا من أسباب ظهور التشدد الديني فيه.

بقي أن نتكلم عن الإعلام الديني، خاصة مع شيوع أشرطة الكاسيت أولا ثم التلفاز، ثم الفضائيات ثم الإنترنت، والذي أحدث نقلة كبيرة في انتقال الخطابات الدينية من المحلي (الجمعيات والمساجد) إلى الإقليمي والعالمي (الاستماع ومشاهدة محاضرات لشيوخ شتى من أماكن شتى والمرء في بيته). وبجانب القنوات الرسمية المصرية والفضائيات التي تبث بعض المحتوى الديني، ستظهر بعض القنوات الدينية كقناة اقرأ والرسالة من الخليج، وأخرى كقناة الناس في مصر، وسيكون لكل تيار تحدثنا عنه ممثلوه في الإعلام، لكن الجديد هو بزوغ ظاهرة ما سمي بالدعاة الجدد ممثَلَين بشباب متدين يتكلم لغة عصرية ويركز على معاني إيمانية تساعد العامة على استحضار الدين في حياتهم اليومية. مثّل عمرو خالد ومصطفى حسني ومعز مسعود هذه الظاهرة، ورغم وجود صلات بينهم وبين دعاة من باقي التيارات، فكان خطابهم غالبا في عموميات الدين التي يقبلها معظم الناس، وإن كانت أكثر انفتاحًا من الخطابات السلفية (التي وجهت لهم النقد أحيانًا في بعض المسائل كاستخدام الموسيقى)، وأبعد عن السياسة من التيارات الدينية المسيّسة.

الثورة وما بعدها: عقد من بركان سياسي وثقافي يروضه القمع

بعد حراك سياسي معارض في العقد الأول من الألفية الثانية، وظهور بعض الكيانات التي جمعت مختلف قوى المعارضة كحركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير، كان لدعوات صفحة “كلنا خالد سعيد” على الفيسبوك أثرها في إشعال مظاهرات ٢٥ يناير التي ستنتهي بإسقاط مبارك، وتعيين المجلس العسكري لإدارة الفترة الانتقالية. سيعقب ذلك بشهرين استفتاء مارس ٢٠١١ على خارطة طريق، إما بإقرار تعديلات دستورية تسبق فيها الانتخابات البرلمانية الجمعية التأسيسية لكتابة دستور جديد، أو رفض التعديلات والبدء بكتابة دستور جديد تعقبه الانتخابات البرلمانية والرئاسية. سيتم إقرار التعديلات الدستورية بنسبة ٧٧٪، وستعقد انتخابات مجلس الشعب بين نوفمبر ٢٠١١ ويناير ٢٠١٢، لتعقبها مباشرة انتخابات مجلس الشورى في يناير وفبراير ٢٠١٢. بعد ثلاثة شهور في مايو ويونيو ٢٠١٢، ستعقد الانتخابات الرئاسية، وسيفوز مرشح الإخوان محمد مرسي بنسبة ٥١.٧٣٪. في ديسمبر ٢٠١٢ وسيُستَفتَى على الدستور الجديد، ليُقبل بنسبة ٦٣.٨٣٪، في ظل دعوات بالمقاطعة. كل هذا يتم في جو مليء بالأحداث الساخنة من احتجاجات ومجازر واشتباكات، كما في أحداث ماسبيرو أكتوبر ٢٠١١، وأحداث محمد محمود نوفمبر ٢٠١١، وأحداث مجلس الوزراء في ديسمبر ٢٠١١، وأحداث استاد بورسعيد وما تلاها من أحداث وزارة الداخلية في فبراير ٢٠١٢.  ستتوالى هذه الأحداث في عهد مرسي بعد إعلانه الدستوري في نوفمبر ٢٠١٢ وما ترتب عليه من موجة احتجاجات، خاصة أحداث الاتحادية في ديسمبر ٢٠١٢، وستشهد الشهور الستة التالية احتجاجات واشتباكات وأحداث عنف مستمرة، حتى وصلت الاحتجاجات ضد مرسي ذروتها يوم ٣٠ يونيو، والتي أعقبها انقلاب ٣ يوليو العسكري. سيأتي الانقلاب بمجازر غير مسبوقة ضد الاعتصامات المناهضة له في رابعة والنهضة، وسيغلق المجال العام بالتدريج أمام كل القوى الثورية وسيشمل قمعه الجميع. سيركز ما يلي على أهم التطورات داخل الحقل الإسلامي في هذه الفترة، خاصة فيما يتعلق بالشباب.

من الإخوان إلى ما بعد الإسلامية: أحزاب سياسية شابّة

سيبرز الإخوان كأكبر لاعب سياسي في مصر بعد الثورة، بما عندهم من رصيد وخبرة تنظيمية. ورغم أن نجاحاتهم الانتخابية استمرت حتى الانقلاب، حوّلت الثورة الخلافات الداخلية في الإخوان إلى انتقادات علنية وانشقاقات في ظل انفتاح المجال العام. أحد خطوط الخلاف داخل الإخوان كان بين قيادات الجماعة التنظيميين وبين شباب الإخوان الذين تشكلوا في مناخ سياسي مختلف عن مناخ الصحوة وأسئلته في السبعينات والثمانينات والذي كان الإخوان ينافحون فيه داخل المربع الإسلامي للتأكيد على أن الديمقراطية والمواطنة وترشيح النساء للبرلمان لا يتعارضون مع الشريعة، محيلين ذلك إلى اجتهادات فقهية لأناس كيوسف القرضاوي ومجموعة الإسلام الحضاري ضد تفسيرات ترى كل ذلك خروجًا عن الشرع. ستكون تلك القضايا مسَلّمات عند جيل الشباب الذي سيتشكل في الحراك حول الانتفاضة الفلسطينية وحرب العراق بما في ذلك من تعاون بين التيارات الإيديولوجية المختلفة، والذي سيثمر مزيدا من التعاون حول قضايا سياسية داخلية تدور حول الديمقراطية والحقوق والحريات، وسيظهر ما يُعرف بجيل المدونات الذي نقل النقاشات الفكرية والانتقادات الإخوانية الداخلية للعلن (مثل قضايا المرأة، الشباب، الانفتاح على الآخر، إلخ)، ما سيخلق أزمات في علاقاتهم مع قيادات الجماعة التي اعتادت ضبط الصف الإخواني تحت الضغط الأمني.

مع الثورة وما بعدها، ستتخذ الجماعة خيارات سياسية مختلفة عن شبابها الذين كانوا من منظمي الثورة وأعضاء في ائتلاف شباب الثورة[13]. سيخرج هؤلاء الشباب ليشكلوا حزب التيار المصري أو يشاركوا في الحملة الرئاسية لعبد المنعم أبو الفتوح ثم تأسيس حزب مصر القوية، وكلاهما سينافس الإخوان في الانتخابات. وبالرغم من أن اختيارات الإخوان السياسية وسياساتها الداخلية كانت أسبابا عملية لانفصال كثير من هؤلاء الشباب، فبرامج تلك الأحزاب تكشف أيضًا عن اختلاف واضح في الخطاب الإيديولوجي، حيث أكدوا على أهمية تجاوز الصراعات الإيدلوجية والهوياتية في سبيل التركيز على القضايا العملية التي يمكن أن تحدث فرقًا حقيقيًا في حياة المواطنين[14]. بمعنى آخر هناك تجاوزٌ لما يسمى بالمشروع الإسلامي ورفضٌ لاستخدام الدين كأداة صراع سياسية واعتبار أن دور الإسلام في السياسة يتمثل في القيم السياسية كالعدالة والشورى. سيعارض الحزبان الانقلاب العسكري وتقويضه للديمقراطية في مصر وسيندمج التيار المصري تحت مظلة مصر القوية في ٢٠١٤. وظل مصر القوية متواجدًا في الساحة المصرية حتى اعتقال رئيسه وأعضاء مؤثرين فيه في ٢٠١٨، وكان لشباب مصر القوية دور بارز في اتحادات طلاب الجامعات، خاصة وأن معظم أعضاء الحزب كانوا من الشباب الصغير الذي لم يسبق له تجربة سياسية حتى مع الإخوان، وسينبثق من الحزب أفراد ومجموعات مؤثرة في المجتمع المدني في مجالات التوعية الثقافية أو العمل الحقوقي. وسيكون للمجموعة الشبابية التي خرجت عن الإخوان تلك دور في المشهد الثقافي المصري والعربي من خلال الإعلام، ومراكز الأبحاث، والدراسات الأكاديمية بعد خروج كثير منهم من مصر.

مبادرات ثقافية: تجاوز القديم نحو توليفات ثقافية جديدة

قبيل الثورة برز بين بعض شباب الإسلاميين نقد للحركات الإسلامية التقليدية، بعد احتكاك كثير منهم بأفكار الإخوان والسلفيين، تجاوز هؤلاء الشباب تلك المجموعات بسبب ما عدّوه فقرًا معرفيًا تعاني منه مشروعاتهم وتعسفًا في قضايا مثل الاختلاط والفن، وسيبنون نقدهم للحركات الإسلامية على أطروحات نقدية داخل المربع الإسلامي، خاصة مدرسة الإسلام الحضاري التي كان لها الدور الأكبر في المجال الثقافي والعلمي. كان لهؤلاء الشباب أيضًا احتكاك بالعمل الطلابي كاتحادات الطلبة ونماذج المحاكاة، وبالأنشطة الخيرية في بعض الجمعيات كـ”رسالة”، “صناع الحياة”، و”عشانك يا بلدي”، وما ينضوي في تلك الأنشطة من خطاب ديني تنموي يحث على الإيجابية والمبادرة الفردية[15].

“مويك” (نموذج محاكاة لمنظمة التعاون الإسلامي) كان أحد تلك المبادرات التي بدأت في عام ٢٠٠٥ في جامعة القاهرة وانتعشت وقت الثورة وانتقلت إلى جامعات أخرى، ولا يوجد إطار تنظيمي يجمعها، فهي نشاطات طلابية تستقطب الشباب الإسلاميين أو المحافظين بشكل عام، وإن انطبعت في بداياتها بالنَّفَس الإسلامي الذي كان لمنشئيها. بدأت الفكرة بدعم من بعض ممثلي الإسلام الحضاري في جامعة القاهرة (نادية مصطفى وسيف عبد الفتاح) وكان التدريب الأكاديمي يركز على مفاهيم الأمة، القضية الفلسطينية، الاستعمار في العالم الإسلامي، نشأة الدولة القطرية الحديثة، والتاريخ السياسي الإسلامي. تتغير تلك المناهج بحسب الجامعة والموارد والسياق السياسي، فقد انتقل الاهتمام من القضية الفلسطينية إلى الواقع المصري بعد الثورة، ثم انتقل إلى قضايا أكثر عمومية بعد الانقلاب، والظاهر أن هذه الأنشطة توقفت في الجامعات واحدة تلو الأخرى عامًا بعد عام بين ٢٠١٧ و ٢٠٢١، والنموذج الذي ما زالت أنشطته مستمرة بناء على حساباتهم على مواقع التواصل هو مويك أسيوط. وقد يشير توقف تلك الفاعليات إما إلى تدخل الدولة أو نضوب المعين الذي كانت تستقي منه هذه النشاطات متطوعيها (كالطلاب الذين كان لهم احتكاك بالحالة الإسلامية) بعد سنين من القمع الذي تعرضت له معظم أشكال الفاعلية الدينية المستقلة، حتى أن ضيف الحفل الختامي لمويك أسيوط ٢٠٢٣ كان أسامة الأزهري—مستشار السيسي للشئون الدينية[16].

بزغت مجموعة أخرى تسمى “يقظة فكر”، وهي كما اسمها ذات طبيعة فكرية وركزت نشاطاتها على التدريب ومجموعات القراءة والمعارض الفنية والأبحاث، وقد بدأت في ٢٠٠٩ موقعا إلكترونيا وتطورت بعد الثورة لتضم أكثر من خمسين باحثًا وفنانًا، حتى أوقف الانقلاب مخيمها الثالث في ٢٠١٣، وقد ضمت المجموعة شبكة من شباب الإسلاميين من خارج مصر أيضًا، وضيوف مخيماتهم لم تكن مقتصرة على المصريين، بل كان هناك وجود لمفكرين إسلاميين من خارج مصر (جاسم سلطان، طارق السويدان، جاسر عودة). دارت أفكار “يقظة فكر” غالبا حول النقد الذاتي للحركة الإسلامية، وأفكار الإسلام الحضاري وأسماء المفكرين التي أثارها (مالك بن نبي، علي عزت بيجوفتش، إسماعيل الفاروقي، عبد الوهاب المسيري، عبد الرحمن الكواكبي).

بعيد الثورة ظهرت مجموعة أخرى مهتمة بالفكر أيضًا سميت “معرفة”، وقد انتشرت في أنحاء الجمهورية. سيكون لبعض مؤسسي الفريق نشاط في نموذج محاكاة لمجمع اللغة العربية (أبجد)، ثم حضور ندوات في “جمعية مصر للثقافة والحوار” التي يرأسها محمد سليم العوا، أحد ممثلي الإسلام الحضاري. يرى بعض المنخرطين في هذه الحالة أن معرفة جسدت النفور من ميراث إسلاميي السبعينات[17]، وستكون فاعليات معرفة حول قراءات في كتب، ومراجعات لأفلام، أو محاضرات في قضايا فكرية، وغيرها من الفاعليات الفكرية في قضايا شتى حسب اهتمامات المشاركين، وإن كانت في إطار أفكار الإسلام الحضاري والمفكرين السالف ذكرهم ودراسات أكاديمية حول الإسلام ثم قضايا الرد على الأسئلة الوجودية. وستستمر فاعليات معرفة وإن خفتت بعد الانقلاب، إلى أن توقفت تمامًا عام ٢٠٢١ كما يظهر على صفحتها على الفيسبوك.

سيخرج من معرفة مبادرة جديدة—شيخ العمود—يُرى فيها أثر الأزهرية التراثية الصوفية، والإسلام الحضاري، وبعض الأفكار الإخوانية بطبيعة أن بعض المنخرطين فيها كان له احتكاك سابق بالإخوان. جعلت شيخ العمود موضِعها ضمن سردية المنهج الأزهري الذي أحياه علي جمعة: أن العلماء كان لهم دور محوري في حياة المجتمع المسلم إلى أن جاء الاستعمار ليقوض هذا الدور المهم حتى ظهرت محاولات لإحياء هذا الدور برجوع دور أروقة الأزهر، وشيخ العمود جزء من هذا الدور الإحيائي للعالم التراثي—شيخ العمود. حتى أن تلاميذ جمعة مثل أسامة الأزهري وعمرو الورداني—اللذيْن سيسلكان سبيل شيخهما في موالاة الانقلاب—كان لهما دروس مع مدرسة شيخ العمود، لكنّ علي جمعة ليس شخصية محورية في هذه السردية، بل تلميذ له بتوجه ثوري أصبح أيقونة للعالِم الثائر ولُقّب بشيخ الثوار وشهيد الأزهر بعدما قتله الجيش أثناء اعتصامه ضد المجلس العسكري في ديسمبر ٢٠١١—عماد عفت، وكيل لجنة الفتوى بدار الإفتاء والذي تحول من السلفية إلى الأشعرية على يد علي جمعة. فالهوية الثورية كانت مركزية عند أصحاب المدرسة لدرجة أنهم كانوا ناقمين على الإخوان لمواقفهم المهادنة للمجلس العسكري الذي قتل عفت. ولأن بذرة شيخ العمود كانت دورة في أصول الفقه لطلاب جامعة في أقسام غير العلوم الشرعية، جعلت شيخ العمود مهمتها تعليم العلوم الشرعية لغير المتخصصين، لكنها لم تقتصر على العلوم الشرعية (كالدورة التعريفية بالعلوم الشرعية ودورة ما لا يسع المسلم جهله) بل كان فيها دورات فكرية (كدورة تأسيس وعي المسلم المعاصر). وبطبيعة شيخ العمود الأزهرية، فقد كان نمط تدينها يثير قضايا المذاهب الفكرية والعقيدة والتراث، وإن لم تخل من السلفيين ذوي الاهتمامات الفكرية. ويمكن أن نرى التشابك بين المبادرات بمعرفة أن معظم طلاب وطالبات شيخ العمود كانوا من طلاب وطالبات مويك[18]. ستستمر شيخ العمود قدر المستطاع رغم تضاؤل هامش الحرية لهم بوصفهم ثوريين وأيضا رافضين للانقلاب حتى توقفت عمليا عام ٢٠٢١ بسبب الضغط الأمني. فقد اعتقل مؤسسها لعدة أشهر في ٢٠١٥، ثم أعيد اعتقاله مرة أخرى في ٢٠٢١ حتى الآن، ومن قبله اعتقل أحد أبرز وجوه شيخ العمود في ٢٠١٨، واعتقل في ٢٠٢٠ حتى ٢٠٢٢ صديقهم الثالث مؤسس أبجد والمنسق الأول لـ”معرفة” حيث برز ثلاثتهم، والمؤسس لمبادرات ثقافية أخرى ما زالت قائمة على الإنترنت.

ظهرت أيضًا مبادرات أخرى على المنهج الأزهري التراثي لها موقف ثوري واتخذت من عماد عفت رمزًا لها، كدار العماد التي أُسست في ٢٠١٢ وقد كان لعماد عفت دور في التحضير لهذه المبادرة قبل مقتله. كانت دار العماد أكثر نخبوية وأكثر تركيزًا على القضايا الفلسفية والوجودية والتصوف، خاصة وأن بعض الحضور كانوا في تساؤلات حول الإيمان بالإسلام[19]، وتجد في دار العماد أيضًا شبابا ممن كان لهم صلة بالإخوان ثم انشقّ عنها. وقد توقفت دار العماد في ٢٠١٥ لأسباب داخلية. أسست طالبات عفت أيضًا “ميراث الحبيب” والتي ما زالت مستمرة وإن كان الظاهر من تفاعلها على وسائل التواصل أن طلابها القليلين من طلاب الأزهر غير المصريين. والخلاصة أن معظم—إن لم يكن كل—المحاضن الدينية والثقافية التي أسسها شباب الثورة الإسلاميين لتدريب الأجيال التي تَلَتهم قد انتهت تحت القمع. ولم يتبق لهم سوى الإنترنت كمساحة لنشاطهم الفكري.

الحالة السلفية: تسييس بمسارات مختلفة

كانت الحالة السلفية قبيل الثورة عبارة عن شبكات من الشيوخ والطلاب الذين تختلف توجهاتهم السياسية بحسب تجاربهم التي أسلفنا الحديث عنها. مع الثورة ظهرت “الجبهة السلفية” التي حاولت التنسيق بين مجموعة من السلفيين الذين كان لهم توجه سياسي رافض للنظام، وبدأت بعيد الثورة محاولة جمع السلفيين المناوئين لمبارك في “حزب الفضيلة”، الذي ما فتئ أن شهد انقسامات لخلافات داخلية، وخرج منه مجموعة أسست “حزب الأصالة” لاحقًا. ظهر “حزب النور” أيضًا بعد أن غيرت الدعوة السلفية موقفها المُحَرِّم للعمل السياسي، وسيحصد كثيرًا من أصوات السلفيين في الانتخابات البرلمانية في ظل غياب أحزاب سلفية أخرى، وسيحصل انقسام في حزب النور في أواخر ٢٠١٢ ليخرج عنه رئيسه عماد عبد الغفور مؤسسًا “حزب الوطن”، بعد ما ضيّق عليه ياسر برهامي وأنصاره للسيطرة على الحزب. ستؤسس “الجماعة الإسلامية” “حزب البناء والتنمية”، وسيحاول بعض أعضاء ما سمي بـ”جماعة الجهاد” تأسيس حزب سموه “السلامة والتنمية” (الذي تم إعادة تسميته بـ”الحزب الإسلامي”) وإن لم يقَر رسميًا. ومع الإشكالات داخل حزب الفضيلة قرر القائمون على الجبهة السلفية أيضًا الشروع في تأسيس حزب سموه “حزب الشعب”. حزب سلفي آخر—”الراية”—كان نحو التأسيس تحت قيادة حازم صلاح أبو إسماعيل، الذي حاول أن ينظّم حالة الزخم التي أثارتها حملته في حزب جديد. ذلك أن حملة أبو إسماعيل جذبت كثيرا من الإسلاميين الذين رأوا أن الإخوان وحزب النور براجماتيين وغير جادين في مسألة تطبيق الشريعة، حتى أن قيادات بحزب النور خالفت قرار الحزب وأعلنت دعمها لأبو إسماعيل.

برز في هذه الأثناء تيار يمكن تسميته بالسلفية الثورية، وستصبح حملة حازم صلاح أبو إسماعيل الانتخابية ممثلة عن هذه الحالة. يركز خطاب السلفيين الثوريين على تطبيق الشريعة “كاملة غير منقوصة”، والمفاصلة مع الغرب مُمَثّلًا خاصة في أمريكا وإسرائيل، وتأكيد على أهمية الفعل الثوري النقي المتصل بثورة ٢٥ يناير والرافض للخضوع للمساومات مع النظام القديم سواء كان ممثلًا في المجلس العسكري أو الفلول. كان للسلفيين الثوريين أيضًا صدام مع المجلس العسكري في محمد محمود ثم مظاهرات العباسية. من ضمن السلفيين الثوريين مجموعات تشكل وعيها قبل الثورة متأثرة بسيد قطب، ويبرز اسم رفاعي سرور—مع آخرين—كأحد الشيوخ المركزيين في تكوين هؤلاء الشباب. ومن الكيانات التي شكلها هؤلاء “ائتلاف دعم المسلمين الجدد” أو “الجبهة السلفية” التي سبق ذكرها وستتضمن أجندة حزبهم “الشعب” الاهتمام بقضايا يركز عليها اليسار عادة مثل العمال والفلاحين والمهمشين في أطراف البلاد[20]. نشأت أيضًا مجموعات أكثر شبابية—خاصة من طلاب الجامعات—من رحم حالة أبو إسماعيل مثل “حازمون”، “طلاب الشريعة”، وكانت أكثرهم تأثيرًا “حركة أحرار” التي مزجت قضايا الشريعة مع رموز ثورية خارج المجال الإسلامي، وأنشأت تعاونًا مع بعض أعضاء ألتراس نادي الزمالك.

في حين اتخذ أبو إسماعيل موقفًا شبه مهادن من مرسي غير خالٍ من نقد، اتخذ شباب “حركة أحرار” موقفًا معاديًا لمرسي وأنصاره بوصفهم قد خانوا وتاجروا بالدين. مع انقلاب ٣ يوليو وقفت معظم الأحزاب والمجموعات السلفية مع الإخوان ضد الانقلاب، عدا “حزب النور” الذي شارك في بيان الانقلاب و”حركة أحرار” التي أكدت أنها تمثل “تيارًا ثالثًا” منفصلًا عن الإخوان والانقلاب. كان للسلفيين الثوريين دور بارز في المظاهرات المناهضة للانقلاب خاصة بين شباب الجامعات، ويمكن النظر في خطاب تلك المجموعات من خلال الأغاني التي أنتجوها على غرار أغاني الألتراس، وفيها خطاب متماس مع الخطابات النقدية العالمية، وذلك بربط الانقلاب بنظام عالمي رأسمالي ظالم مستبد وعدو للدين. مع خفوت المظاهرات المناهضة للانقلاب أواخر ٢٠١٥، سيخرج بعض ممثلي السلفية الثورية إلى خارج مصر وسيكون لهم حضور في الإعلام والمراكز البحثية والعمل التثقيفي.

مع الضغط الأمني الشديد واختفاء العمل الدعوي للسلفيين المُسَيّسِين، ظل بعض الدعاة السلفيين الذين لا أجندة سياسية عندهم على الساحة الدعوية، مثل أحمد عبد المنعم وحازم شومان. في تلك الفترة أيضًا ظهرت حالة شيوخ الآسك على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم مجموعة من الشيوخ السلفيين الشباب الذين كانوا يتلقون أسئلة متابعيهم من خلال برنامج “آسك” الذي يخفي هوية السائل. هذه الحالة هي ضمن حالة أكبر من ظهور “إسلاميي الإنفلونسرز” على السوشيال ميديا، والتي يتركز خطابها على إدراج معاني إيمانية في الحياة اليومية، خاصة في إطار تنمية الذات[21]، فهي شبيهة بحالة الدعاة الجدد، ولكن على السوشيال ميديا، ومع إغلاق الجوامع للعمل الدعوي خارج الإطار الرسمي المضبوط بتقييد فتح الجوامع بأوقات الصلوات من خلال الإمام الذي تعينه الأوقاف، استمر الإنترنت كمساحة أساسية للعمل الدعوي السلفي، وبرز اسم أحمد يوسف السيد—سعودي الجنسية—وبرنامجه “البناء المنهجي” الذي ينضم إليه عبر الإنترنت الآلاف من الشباب المصريين. أما الأسماء التي لمع بريقها قبيل الثورة كمحمد حسان أو محمد حسين يعقوب وكانت تحضر دروسهم المئات، فلم يبق من ذلك شيء حقيقي على الأرض. بل إن النظام أهانهم باستدعائهم أمام المحكمة التي عاملتهم بوصفهم سببَ تطرف الشباب الذين تحاكمهم المحكمة في قضايا الإرهاب وأغلق قناة الرحمة التي كان يديرها محمد حسان. وكذا فإن حزب النور والدعوة السلفية قد خَفُتَ ما كان لهم يومًا ما.

مقاومة النظام بالقوة: مقارعة العنف بالعنف

بالرغم من شعار “سلمية .. سلمية” الذي رفعه كثير من المتظاهرين في الثورة وما بعدها تأكيدًا للدولة أن استخدام العنف ضدهم غير مبرر وإبرازًا أن حركتهم للمطالبة بحقوق مشروعة، لا لإثارة الشغب، فإن العنف لم يفارق المشهد الثوري[22]، فعنف الشرطة المعهود–سواء مباشرة أو عبر البلطجية—خلّف الكثير من القتلى والجرحى خلال الثورة المصرية، ولعل معركة الجمل تمثل أيقونة هذا العنف. أمام هذا العنف ومع طاقة الغضب ضد النظام في لحظة ثورية ليس فيها تنظيم مركزي، لم يقف الثوار مكتوفي الأيدي، فقد قاوم كثير منهم البلطجية والشرطة بما استطاعوا أن يدبروه من وسائل الدفاع كالحجارة وما شابه. منهم أيضًا من قام بمقاومة الشرطة بما لديهم من أسلحة بيضاء أو مولوتوف وبحرق مقرات الشرطة، خاصة أبناء المناطق الشعبية الذين هُمّشُوا في سردية الثورة التي تمحورت حول ناشطي الطبقة المتوسطة ذوي التوجهات السياسية[23]، وسيظل العنف مصاحبًا الثورة حتى أن تأريخها يأتي بذكر المذابح مِثلُها مثل الاستحقاقات الانتخابية، وما خلّفته تلك المذابح من نفس ثوري راديكالي مقاوم ضد العسكر بين الناشطين والألتراس. مع زيادة الاستقطاب والشيطنة المتبادلة في سنة مرسي، سيزيد العنف بين المدنيين أنفسهم بين مؤيد لمرسي ومعارض له كما في أحداث الاتحادية، ومقرات الإخوان، وظهور البلاك بلوك. ثم سيأتي الانقلاب ليؤسس لمرحلة جديدة غير مسبوقة من عنف الدولة والتي أصبحت مجزرة رابعة أيقونته لما كان فيها من أعداد ضخمة من القتلى في وقت قصير على الهواء مباشرة. أمام هذا العنف المستمر ضد المظاهرات المناهضة للانقلاب، سيحاول المتظاهرون الدفاع عن أنفسهم بالوسائل المتاحة.

ومع استمرار هذا الحال لأمد أطول، سيأخذ استخدام القوة أشكالًا أكثر تنظيمًا وسينتقل من الدفاع البسيط العفوي عن المظاهرات، إلى استهداف سيارات الشرطة وتعطيل الطرق تحت شعار “كل ما دون الدم فهو سلمية”، إلى عمليات قصاص منظمة ممن يراه الفاعلون ضالعًا في القتل أو التعذيب أو الاغتصاب. يمكن مشاهدة هذا التطور في تطور المجموعات التي ظهرت: (٢٠١٣: “مولوتوف” و”ولعها”؛ ٢٠١٤: “كتائب الشهداء” و”حركة المقاومة الشعبية”؛ ٢٠١٥: “كتائب الإعدام” و”العقاب الثوري”؛ ٢٠١٦: “حسم” و”لواء الثورة”)[24]. في محاولة لفهم جذور هذه الحالة، يرى بعض الباحثين أنه يجب فهم هذا التطور ضمن سياق الثورة، لا سياق السلفية الجهادية[25]، هذا لا يعني أنه لا وجود للسلفية الجهادية في مصر، فوجودها قديم واستمر بعد الثورة وتنامى بعد الانقلاب. ففي حين توجَّه بعض الجهاديين بعد إخلاء سبيلهم بعيد الثورة نحو تأسيس أحزاب كما أسلفنا، ظل بعضهم ممثلين للسلفية الجهادية وشارك بعضهم في التجييش للجهاد في سوريا[26]، لكن السلفية الجهادية أيضًا وُجِدت في جيل أصغر من هؤلاء، تبنى الفكر الجهادي دون تواصل مباشر مع هذا الجيل الأكبر. تبنى معظم هذا الجيل الأصغر السلفية الجهادية في سياق سخطهم على “الحرب على الإرهاب” وما عنته من استهداف للمسلمين وحروب على أفغانستان والعراق بعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. كان الخطاب الجهادي على الإنترنت سبيل هؤلاء لتبني السلفية الجهادية، بعد شعورهم بخذلان شيوخهم السلفيين الذين لم يقدموا خطابًا ناقدًا للمآسي التي تعرض لها المسلمون في تلك الفترة[27]، وبعد الثورة سيشارك هؤلاء أيضًا في القتال في سوريا. بعيد الانقلاب سيزيد النشاط الجهادي داخل مصر، خاصة في سيناء وستظهر مجموعة “أنصار بيت المقدس” التي ستبايع “تنظيم الدولة” وستتسمى بـ”ولاية سيناء”.

مجددًا يرى بعض الباحثين أنه على الرغم من أن كلا الخطين السابق ذكرهما مشتركان في شرعنة العنف ضد الدولة وممارسته، فإنهما بشكل عام مختلفان في الخطاب والممارسة: التسميات المختارة بين الجهاد والثورة؛ الاستشهادات الدينية في الخطاب بين مركزيتها الطاغية وهامشيتها التكميلية أو غيابها بالكلية؛ المستهدفين بين التوسيع (لتشمل المدنيين، السياح، المسيحيين، والصوفيين)، والتضييق (لتشمل الدولة ومعاونيها)[28]. يوجد أيضًا اختلاف في الهدف العام بين قتال الكفار وإقامة دولة الإسلام، ومقاومة ظلم نظام الانقلاب، لكن حتى مع هذا يرى الباحثون أن قضية الثأر للمظلومين (للشهداء والمعتقلين الذين يتعرضون للتعذيب والاغتصاب) كانت مركزية في كل تلك المجموعات المسلحة، حتى “أجناد مصر” و”ولاية سيناء”[29]، هذا التركيز على الثأر ليس نابعًا فقط عن تحليل محتوى بيانات المجموعات المسلحة وحسب، بل أيضًا من المقابلات التي أجراها هؤلاء الباحثون مع بعض الذين تحولوا نحو العمل المسلح بعدما كانوا أبعد ما يكونون عنه: كطالب دراسات عليا ميسور الحال وليس له دخل مباشر في السياسة اُعتقل أخوه بالخطأ وانتهت محاولاته لإخراج أخيه بإهانة والدته واعتقاله هو أيضًا وتعذيبه، فماتت الأم كمدًا على ابنيها، فتمحورت حياة هذا الشخص على الثأر ممن ظلمه، ووجد في خطاب الجهاديين الذين يجاورونه الزنزانة ضالته؛ أو طبيب من الإخوان قُتِل أخواه في رابعة واعتقل هو منها؛ أو آخر  في صعيد مصر اُعتقلت خطيبته واعتُدي عليها وكان عليه أن يفعل شيئًا للحفاظ على شرف عائلته.

ولذا، كان سوق الحركات المسلحة رائجًا عقب العنف المفرط الذي استخدمته قوات الانقلاب، وقد انجذب إليه أناس بخلفيات سياسية وإيديولوجية مختلفة. فأولئك الذين كانوا يرددون “سلميتنا أقوى من الرصاص” تيمنًا بما قاله مرشد الإخوان في رابعة، صاروا موضع سخرية لاذعة بين آخرين مناهضين للانقلاب، رأوا في التمسك بالسلمية طفولية، وخنوعًا، بل خروجًا عن منهج الإخوان الأوائل. وسيصبح النقاش حول العنف (أو العمليات النوعية)—بين مؤيد ومعارض—محتدمًا حتى داخل الإخوان[30]. وبرغم التفسيرات الشائعة التي تُرجع العنف إلى جذور فكرية دون النظر في السياق، فإن الدراسات تشير إلى الدور الكبير الذي تلعبه الظروف لجعل العنف خيارًا لمن انتهجه. فحتى الشباب الذين كان لهم مواقف إيديولوجية جهادية واضحة حول الفصيل الذي يجب القتال تحت رايته في سوريا مع تحريم القتال مع أي فصيل مسلح آخر يعتبرونه ضالًا أو كافرًا، هؤلاء الشباب أنفسهم انتهى بهم المقام مع المجموعات المسلحة التي كانوا يفسقونها لأنها كانت المجموعات التي استطاعوا الوصول إليها عبر شبكات معارفهم[31].

الحالة الصوفية-الأشعرية-الأزهرية

لم يكن موقف الأزهر داعمًا للثورة، وإن كانت تصريحات الطيب أكثر اعتدالًا من التصريحات القوية التي أفاد بها المفتي علي جمعة في تحريمه الخروج على الحاكم ودفاعه عن شرعية نظام مبارك[32]، مع سقوط مبارك سيتخذ الأزهر بقيادة الطيب خطوات حثيثة لدحض أي ادعاء بأن الأزهر أداة بيد النظام، وسينشر وثائق الأزهر التي سيكون من ضمنها “وثيقة الأزهر لدعم الشعوب العربية” التي أكدت على حقوق الشعوب في الحرية والكرامة والثورة ضد الأنظمة المستبدة. سيشكل الأزهر أيضًا “مكتب رسالة الأزهر” بقيادة أسامة الأزهري بهدف تكوين شبكة من الأزاهرة في أنحاء الجمهورية. وسيستغل الأزهر احتياج جميع الأطراف إليه (النظام ضد الثورة، والإسلاميين والعلمانيين ضد بعضهم البعض) أفضل استغلال لتدعيم استقلاليته وسلطته بالقانون والدستور.

أما علي جمعة فقد حاول شرح ملابسات موقفه من الثورة، ولم يكن له تفاعل كبير مع المجريات السياسية إلا نادرًا، لكنه سرعان ما أثار الصراع الأشعري السلفي في خطبة له من الجامع الأزهر بعيد الثورة وفي القضية التي رفعها على السلفي أبو إسحاق الحويني لانتقاد الأخير له على قناة فضائية. لكن شبكة طلاب علي جمعة كانت فاعلة في المشهد الثقافي من خلال الدروس في المساجد والمنتديات الثقافية والبرامج التلفزيونية، ومنها الوجود المميز للحبيب علي الجفري. كما أسلفنا كان عماد عفت تلميذ علي جمعة، ومثّل مقتله صدمة لكثير من أقرانه وتلامذته، وستتكون بعض المجموعات الأشعرية-الصوفية الثورية كما في شيخ العمود ودار العماد. غير أن الخط الأبرز في الحالة الصوفية-الأشعرية (المتمثل في شبكة علي جمعة) لم يكن على الخط الثوري ضد المجلس العسكري. أما الطرق الصوفية التقليدية، فلا يوجد دراسات تشير إلى أي تأثير قوي لها في المشهد، وإن حاولت بعضها تأسيس بعض الأحزاب.

كان الخلاف بين شبكة علي جمعة والإسلاميين ممثلين في السلفيين والإخوان بارزًا في خطاب طلابه. برامج الحبيب علي الجفري في تلك الفترة (مثلا “آمنت بالله”) تقدم نقدًا لطرح الإسلاميين، خاصة الموسم الذي سجله وقتما كان مرسي رئيسًا، والذي كان فيه نقد للديمقراطية بوصفها وسيلة لانتخاب ديكتاتور. لكن نقدهم للإسلاميين—ومعهم معز مسعود—أيضًا ركز على أسلوبهم التنفيري الذي عدّه الناقدون سببًا لحالات الإلحاد المتزايدة بعد الثورة. سيجعل الانقلاب من هذا الخلاف أكثر عمقًا مع الدعم الذي قدمه علي جمعة وطلابه للانقلاب، والذي بدأ بنقد تمسك الإسلاميين بالسلطة وتحريضهم على العنف. لكن خطاب علي جمعة تخطى ذلك في خطبه التي وجهها للجيش في الغرف المغلقة ووصل إلى تبرير قتل المتظاهرين بوصفهم خوارج. الخطاب الذي تبلور مع الانقلاب وصارت تلك المجموعة ممثلة عنه، هو خطاب الطاعة المطلقة لولي الأمر، خاصة الجيش المصري الذي يعدونه مأمونًا من الفتنة، مؤوّلين حديث “تكون فتنة، أسلمُ الناس فيها الجند الغربي”، والجند الغربي عندهم هو الجيش المصري لأن مصر تقع غرب مدينة الرسول. ويتقاطع هذا مع خطاب “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” الذي يقوده عبد الله بن بية من الإمارات. يركز هذا الخطاب أيضًا على دحض العرى الفكرية للإسلام السياسي، خاصة مقولات سيد قطب، التي يعتبرونها سبب الإرهاب، ويضعون الخطابات السلفية والإخوانية والجهادية جميعًا في خانة التشدد. والجدال مع السلفية (أو “النابتة” كما يسميهم جمعة) مستمر حول قضايا الأضرحة والمولد النبوي والتجسيم وغير ذلك، خاصة في حلقات العلم التي تشهدها المضايف وأروقة الأزهر وتبثها وسائل التواصل الاجتماعي.

مع هذا التصالح التام بين الدولة وممثلي هذا الخطاب، فإنه يحظى بتواجد طبيعي سواء من خلال برامج التلفزيون المذاعة من مصر (لاحظ أن قناة الناس التي كانت تمثل الخطاب السلفي في مصر مثلا، صارت صوفية-أشعرية)، أو في الجوامع والمضايف المفتوحة لهم، أو الفاعليات التي يُدعَون إليها في الجامعات، أو من خلال الفاعليات التي تقدمها مؤسساته مثل مؤسسة طيبة ومبادراتها سؤال وروضة النعيم. أنشأ علي جمعة أيضًا طريقة صوفية هو شيخها، سماها “الصديقية الشاذلية”. ويغلب على الذين يحضرون فاعليات الطريقة—أو حتى يشاركوا في برامج “رحلة الحقيقة” التي يعدها تلميذ علي جمعة عمرو الورداني—أن يكونوا من أبناء الطبقات المتوسطة العليا والعليا. ونجد أن مصطفى حسني صار أيضًا في تلك الدوائر. ويمكن الحديث أن التصوف الذي يقدمه هؤلاء صار خيارًا مطروقًا للمتدينين في مصر بشكل أكبر مما كان معروفًا في القرن الماضي. أما الطرق الصوفية التقليدية، فلا نعرف كثيرًا عن الأوضاع داخلها ما بعد الانقلاب، سوى أن علاقاتها طبيعية مع السلطة، ما يعني استمرارها بشكلها التقليدي.

ما كان مختلفًا في الحالة الأشعرية-الصوفية وقت الانقلاب، هو موقف شيخ الأزهر الذي كان مُشدِّدًا على حرمة الدماء وساعيًا نحو تحقيق مصالحة لا تستثني أحدًا، وإن شارك في بيان الانقلاب بجانب السيسي. وعلى الرغم من أن الطيب سرعان ما ترك الانخراط في التطورات السياسية وانكب على الأزهر، فقد كان موضع هجوم من الإعلام الذي يمثل النظام لأسباب عديدة منها رفضه تكفير تنظيم الدولة، أو الاختلاف حول قانون الطلاق، والحديث عن تجديد الخطاب الديني ومناهج الأزهر وعلاقتها بتغذية الإرهاب. لكنه هوجم أيضًا بسبب إبقائه على بعض أعضاء هيئة كبار العلماء الذين كان لهم موقف واضح ضد الانقلاب مثل محمد عمارة أو حسن الشافعي مستشار الطيب السابق الذي استقال اعتراضًا على مشاركة الطيب في إعلان الانقلاب. مع مواقف الطيب التي تظهر شيئًا من الاستقلال عن السلطة، يبدو أنه قد جذب شعبية متزايدة. غير أن نفوذ الأزهر ونفوذ الطيب داخله تحت تهديد وضغط مستمرين من النظام الذي قلص من صلاحيات الأزهر (مثلا في انتخاب المفتي) وأبعد بعض رجال الطيب المقربين عن قيادة الأزهر.

مساءلة المستقر: تساؤلات حول الدين

لعل الثورة لم تغير النظام السياسي نحو ما كانت تأمله حتى الآن، لكنها أحدثت زلزالًا حقيقيًا في كل التيارات الفكرية في مصر، خاصة تلك الدينية التي كانت تهيمن على المشهد. تمثل هذا الزلزال في مساءلة المستقر الذي كان يعد من “الثوابت” عند التيارات الدينية المختلفة[33]، رأينا هذا في التغيرات الجذرية التي حصلت لبعض الفاعلين مثل تحول الدعوة السلفية نحو السياسة، لكننا رأينا هذا أقوى في الأجيال الجديدة مثل التي خرجت عن الإخوان مثلًا وتبنت نقدًا فكريًا وحركيًا للجماعة وقيادتها، سواء تمثل ذلك في أحزاب، مبادرات ثقافية، أو حتى توجه مسلح. لكن زلزال الثورة أحدث تساؤلًا لما هو أعمق من ذلك في المجتمع المصري—الدين ورموزه وتفسيراته المهيمنة على الحياة في مصر.

مساءلة سلطة المشايخ والعلماء بين مريديهم ومريداتهم كانت ظاهرة[34]، فشعور كثير من الشباب بالخذلان من المواقف السياسية التي اتخذها شيوخهم قطع حبل الثقة الذي كان يربطهم. مثلا شعر بعض طلاب علي جمعة الثوريين بالخذلان من مواقفه السياسية. كان هذا واضحًا في عتاب عفت له في الرسائل التي كتبها له وقت الثورة وأفصح عنها جمعة بعد مقتل عفت. لكن شعور الخذلان الحقيقي من جمعة عند بعض طلابه جاء بعدما ظل جمعة صامتًا عن أي نقد للمجلس العسكري الذي قتل عفت، حتى أن إحدى طالباته توقفت عن الصلاة بعد أن رأت هذا من شيخها[35]، مع تسريبات علي جمعة التي أيد فيها قتل المتظاهرين، تفاقم الأمر أكثر وذهب بالبعض إلى ترك الإسلام، أو ترك التصوف، أو ترك اتباع الشيوخ[36]. هذا الشعور بالخذلان كان أيضًا موجودا بين طلاب بعض الشيوخ السلفيين والدعاة الجدد. شعور شباب الإخوان بخذلان قياداتهم—وإن لم يكونوا مشايخ—كان في محطات كثيرة بدءًا من سياساتهم الإقصائية تجاه شبابهم الناقد بُعيد الثورة، مرورًا بموقفهم المهادن للعسكر وقت “محمد محمود”، ثم فشلهم في إدارة البلاد وإدارة الحراك ضد الانقلاب، ثم التصارع الداخلي الذي ألقى بظلاله بشكل قوي داخل السجون وفي المنافي بشكل لم يكن أعضاء الإخوان يتصورون أن يصل إلى هذا الحد من التعنّت[37].

لكن الأمر عند البعض لم يكن متعلقًا بخذلان شيخ فقط، بل بمساءلة كل الثوابت التي بنى عليها تدينه يومًا ما. من هذه الثوابت سلطة العلماء والمشايخ، فبعض الشباب اليوم -حتى من يُعرّفون أنفسهم أنهم متدينون- يرون أن المشايخ ليس لهم أي فهم للواقع وبالتالي ليس لقولهم أي سلطة في السياسة[38]، لكن سلطة العلماء تم مساءلتها حتى في المسائل الدينية التي كانت تعد من “الثوابت”، وبعض هذا ناتج من التعرض لمقاربات نقدية للتراث، سواء كانت في خطاب مقصود به العوام (إسلام البحيري أو إبراهيم عيسى مثلا) أو خطابات أكاديمية للشباب الذين تعرضوا للعلوم الاجتماعية أو قرأوا لنصر حامد أبو زيد مثلا. فالعديد من الشباب انتقلوا من مرحلة النظر في أي أنماط التدين تمثل الحق، إلى الوعي بأن كل أنماط التدين وأقوال العلماء تطورت في سياق تاريخي معين، ولا بد من التعامل مع هذا التراث في سياقه الذي قد لا يكون مفيدًا الاستعانة به في الوقت الحاضر. ليس هذا فحسب فلعل ما في التراث من بعض الآراء التي نأخذ بها اليوم كانت نتيجة ضغوطات (كتلك التي تعرض لها العلماء وقت الثورة) أو أن ما وصلنا من تفسيرات ليس بالضرورة لأنها هي الحق، بل لأسباب تاريخية بحته، وبالتالي فعلينا مساءلة التراث. مع هذا التصور النقدي للتراث، يصبح المرء أقل تشبثًا بما قد كان يومًا محور تدينه (خاصة في الأمور الظاهرة)، وأكثر انفتاحًا على تفسيرات قد يعدها العلماء التقليديون منافية لثوابت الإسلام. في هذه الحالات، يرى الشباب أنفسهم متدينين، لكن فهمهم للدين مختلف عما هو سائد.

لكن هناك حالة أخرى من البعد عن الدين خلّفها السخط على خطاب الإسلاميين بعد الثورة في محطات مختلفة مثل الاستفتاء (“وقالت الصناديق للدين نعم”)، وانشغال الإخوان وحزب النور بالانتخابات في وقت المواجهة مع المجلس العسكري في “محمد محمود” و “مجلس الوزراء”، ثم وصول الإسلاميين إلى الحكم. في دراسة مع بعض الفتيات اللاتي خلعن الحجاب بعد الثورة، يتبين أن بعضهن خلعن الحجاب احتجاجًا على الخطاب الذي استخدمه العسكر وبعض الإسلاميين في نقد الفتيات اللاتي تعرضن لعنف العسكر (حادثة ست البنات) وما تبعها من كشوف العذرية مثلًا[39]. كان خلع الحجاب لبعض الفتيات طريقة للتعبير عن أنهن لسن في نفس صف الإسلاميين، خاصة وأن بعض تلك النساء كنّ في بعض الدوائر العلمانية التي رأت الحجاب “علامة تخلف” تنافي القيم النسوية التي يتبنونها، كما تنقل نرمين علّام من مقابلاتها معهن[40]. جاء البعد عن الدين أيضًا مرتبطًا بالأحداث الصادمة التي مر بها الناس، من مذابح وفقد وسجن وتعذيب، والتي كانت بمثابة زلازل هشّمت المعنى الذي كان في القلب من نضال الشباب، بعدما تهشم كل أمل وانحسر الأفق من الشأن العام إلى الشأن الفردي[41]. تهشُّم المعنى هذا ذو صلة وثيقة بالدين عند الشباب المتدين الذي كان نشاطه السياسي لا ينفك عن دينه وإيمانه، وهذا يشير إلى التساؤل الذي تصاعد في تلك الأجواء عن رحمة الله ووجود الشر، ولِمَ يسمح الإله أن يُنكَّل بعباده.

شكل ١ أجوبة المصريين المسلمين عن تدينهم: متدين (أزرق)، متدين إلى حد م (اخضر)ا، غير متدين (أصفر)، لا أعرف (أحمر)، أرفض الجواب (برتقالي). (مصدر البيانات: الباروميتر العربي)

حدث كل هذا في سياق خروج ثوري لمجموعات تتحدى القيم التي هيمنت على المجتمع المصري، خاصة في قضايا النسوية والإلحاد والمثلية[42]. لم تكن تلك المجموعات غير موجودة قبل الثورة، لكن الثورة كانت فرصة للخروج إلى العلن والتشبيك على الإنترنت وعلى الأرض[43]. تلقت ظاهرة الإلحاد الكثير من الاهتمام في كل الأوساط الدينية بعدما أحدثت ضجة كبيرة. فبعد الثورة مباشرة ظهرت محاولات الرد على الإلحاد كما في محاضرات لفاضل سليمان (مثلا “كيف تحاور ملحدًا؟”) و عمرو الشريف وبرنامجهما الذي كانا يناظران فيه ملحدًا، وما زال عمرو الشريف ينشط في هذا الإطار. ظهر هذا الهم لمواجهة الإلحاد أيضًا بين الأشاعرة-الصوفية كما في رد أسامة الأزهري على إعلان أحد شباب الإخوان المشهورين تعليق إيمانه بالله، أو أعمال الحبيب علي الجفري ومبادرة مؤسسته طابة -“مبادرة سؤال”- التي تتمحور حول إجابة الأسئلة الوجودية التي يواجهها الشباب المسلم. الإجابة على تلك الأسئلة الوجودية كان أيضًا محوريًا في المبادرات الثقافية الثورية مثل “دار العماد” أو “شيخ العمود” وبعض النقاشات في “معرفة”. الحديث عن تلك التساؤلات أيضًا ظاهر في أعمال الدعاة الجدد مثل معز مسعود (برنامج “رحلة اليقين”). يحضر هذا السؤال أيضًا في الدوائر السلفية خاصة باستحضار ما تقدمه بعض المراكز السلفية في الخليج كمركز “تكوين” و “رواسخ”. لكن بشكل عام فمنذ الثورة صار إشهار الإلحاد أمرًا موجودًا، لا تخطئه حتى الاستطلاعات في مصر[44].

خاتمة

بعد عقد على الثورة، وما فجرته من فاعلية في المجتمع المصري عامة والحقل الإسلامي خاصة، فإن معظم من بقي من فاعليها على قيد الحياة يقبعون تحت قمع نظام الانقلاب إما في السجون، أو المنافي، أو تحت خوف دائم من البطش. أكبر جماعة سياسية منظمة في مصر -الإخوان- ظلت تحت هجمات من القتل والاعتقال والتجريم بوصفها جماعة إرهابية منذ ٢٠١٣ ولا يوجد مؤشرات إن كان لها فاعلية تنظيمية حقيقية في مصر الآن، وفاعلية الآلاف الذين فروا من قمع الدولة خارج مصر تواجههم عقبات الخلافات الداخلية. الأحزاب التي خرجت عن الإخوان كالتيار المصري وحزب مصر القوية فقدت فاعليتها باعتقال بعض قياداتها في ٢٠١٨ وإدراجهم في قضايا الإرهاب. المبادرات الثقافية التي كان من المفترض أن يكون لها حظ أوفر للبقاء بحكم أن ليس لها نشاط سياسي صريح لم تحالفها الحظ في أن تخرج من دائرة القمع، فمنها ما توقف مع الانقلاب، ومنها ما استمر شيئًا ما برغم الضغوط إلى أن تم إيقافه تمامًا مع اعتقال الشخصيات المركزية فيه، وما كان منها من نشاطات غير مركزية تآكل مع الوقت وسياسات كوفيد، ومع ٢٠٢١ تم تصفية المبادرات الثقافية التي نشطت مع الثورة.

السلفيون الثوريون الذين كان لهم نشاط ضد الانقلاب يواجهون نفس مصير الاعتقال وتهم الإرهاب. وسلفيو حزب النور الذين أيّدوا الانقلاب أو باقي الدعاة السلفيين الذين كانوا أشهر من النار على العلم لم يعد لهم أثر على الأرض، خاصة مع استهداف السلفية في الإعلام المصري وإغلاق الجوامع أمام النشاط الدعوي المستقل، بعيدًا عن انفضاض كثير من طلاب هؤلاء الشيوخ عنهم. والقلة القليلة من السلفيين الذين يتركز نشاطهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وليس لهم أي نشاط سياسي، لا يسلمون أيضًا من بطش الدولة العشوائي (انظر اعتقال أمير منير أحد الإنفلونسرز). أما الحركات المسلحة الثورية التي ظهرت للقصاص من عنف الدولة المتمثل في مذابحها وتعذيبها واعتقالها، فقد توقفت عملياتها أيضًا منذ ٢٠١٩ مع استهداف الدولة الطبيعي لها، وما زالت الدولة تحاول السيطرة على الحركات الجهادية في سيناء. الأزهر بقيادة أحمد الطيب ما زال مستمرًا ويحاول توسيع استقلاله وتأثيره في الشارع المصري بنسب مختلفة من النجاح، ويساعد في ذلك منصب شيخ الأزهر المُحصّن، غير أن ذلك لا يعني ضغوطات مستمرة على شيخ الأزهر، سواء بالهجوم عليه في الإعلام أو إبعاد رجاله في الأزهر، أو تقليص صلاحيات الأزهر. من زال مستمرًا بشكل طبيعي دون ضغط سياسي حقيقي هو شبكة علي جمعة التي تتبنى خطابًا صوفيًا أشعريًا فيه تأييد مباشر لنظام الانقلاب ومعاداة صريحة لأي خطاب مناوئ لظلم الدولة. باختصار فأي مجموعة لها توجه إسلامي وتتحرك دون تنسيق مع الدولة فقد تم البطش بها وتجريفها أو تعيش تحت هذا التهديد.

مع الثورة وما تلاها من أحداث أيضًا تصاعدت مساءلة ما كان يومًا مستقرًا عند الكثير من الشباب، سواء بمساءلة سلطة الشيوخ الذين اتبعوهم يومًا ما، أو بمساءلة سلطة الشيوخ بشكل عام، أو بمساءلة التراث برمته وتبني تفسيرات مختلفة عن السائد، أو بترك التدين ومتابعة الحياة دون التزام ديني، أو بمساءلة الدين والإله من الأساس. وذلك يأتي في سياق خذلان بعض الشيوخ لطلابهم، أو التعامل المنفر لبعض المشايخ مع الآخر، أو التعرض لخطابات نقدية للتراث أو الدين بالكلية سواء في الإعلام أو الدراسة أو في الدوائر الجديدة التي دخلها هؤلاء الشباب. والحديث أن هذه الظاهرة هي بين الشباب بالخصوص تدعمها الإحصائيات (انظر شكل ٢)، وهو أمر طبيعي لشريحة لم تتعرض لمحاضن الإسلاميين مقارنة بالأجيال السابقة. يعدّ الشباب أكثر جرأة على اتخاذ مسارات مختلفة لقلة القيود الاجتماعية عليهم وقدرتهم على بناء شبكات علاقات جديدة، ولأن الإنترنت فتح مساحة كبيرة للتفاعل مع عالم أوسع من الأفكار غير تلك السائدة محليّا، لكن الإحصاءات أيضًا تشير أن الصعود الكبير لعدم التدين الذي أعقب الانقلاب ينحدر مرة أخرى، لكن دون مؤشرات أو دراسات كافية لشكل التدين الذي يتجه إليه الشباب.

شكل ٢ النسبة المئوية للمصريين المسلمين الذين يعرفون أنفسهم كغير المتدينين في كل جيل. (المصدر: الباروميتر العربي)

كل ذلك لا يعني أن قمع الدولة قضى على كل شيء بقمعه داخل أراضيه واستهدافه للمنفيين بأساليب قمعية مختلفة[45]، ما زال الإنترنت مساحة يستخدمها كل الفاعلين السابق ذكرهم للدعوة إلى أفكارهم بين المصريين، وهذا واضح في المنافي، لكن هناك أيضًا مجتمعات وأنشطة جديدة تبرز في المنافي مع الآلاف المؤلفة من الناشطين المصريين الذين خرجوا نحو تركيا وأوروبا وأمريكا وغيرهم. أما الأجيال الجديدة (خاصة المولودين منذ الألفية الجديدة) فلم تر السياسة البتة إلا ذكريات خافتة وقت الثورة والانقلاب في طفولتهم، ولذا فإن النقاشات السياسية التي كانت سائدة وقت الثورة وما قبلها ليس لها حضور في نقاشات تلك الأجيال. وفي هذه الحالة ترسم الهويات بين الشباب المتدينين على خطوط مثل سلفي-أشعري أو إسلامي-علماني، وتأخذ مسائل الجندر حيزًا من النقاش بوصفها المساحة التي تؤثر على حياة الشباب اليومية ويمكنهم الحديث حولها دون أن ترى ذلك الدولة نشاطًا سياسيا. لكن كما هو واضح من التغيرات التي حصلت في العقد الماضي فلا شيء يدوم، والتغيرات في عالم شديد السيولة متوقعة دائمًا.

بحث المشهد الإسلامي المصري منذ ثورة يناير ٢٠١١: الإسلام في خريطة النشاط الشبابي 

 

المصادر بالعربية

البقري، زينب. ٢٠١٨. «تكوينات شباب الإسلاميين الاجتماعية: هل تصبح بديلًا عن التنظيمات الكبرى؟ مدرسة ‘شيخ العمود’ نموذجُا.» در ما السياسي في الإسلام؟ الحركات الإسلامية وصخب السياسة، تحرير مصطفى عبد الظاهر. القاهرة: دار المرايا.

عماشة، محمد. ٢٠١٨. «الإمارات والصوفية في مصر: خرائط الفكر والحركة.» المعهد المصري للدراسات. https://eipss-eg.org/?p=33503.

عياش، عبد الرحمن، عمرو عفيفي، و نهى عزت. ٢٠٢٣. الأواصر الممزقة: الأزمة الوجودية للإخوان المسلمين في مصر ٢٠١٣-٢٠٢٢. ترجمة حسان حساني. الولايات المتحدة: مؤسسة القرن.

فتوح، محمد. ٢٠١٩. «إسلاميو الإنفلونسرز: تشكيل علاقة الفرد بالدين.» إسطنبول: المعهد المصري للدراسات.

———. ٢٠٢١. «من يملأ الفراغ؟ الكيانات الدينية والثقافية في مصر بعد الثورة.» مركز نهوض.

المصادر بالإنجليزية

Abdelgawad, Doha Samir, and Shaimaa Magued. 2022. “Not Anymore in Politics: Theorising the Young Egyptian Muslim Brothers’ Political Disengagement in the Aftermath of the 2013 Military Coup.” Middle East Law and Governance 1 (aop): 1–20. https://doi.org/10.1163/18763375-15020001.

Allam, Nermin. 2022. “Women’s Unveiling in the 2011 Egyptian Uprising: Political Opportunities and Modesty Politics.” Politics & Gender, October, 1–22. https://doi.org/10.1017/S1743923X22000307.

Amasha, Muhammad. Forthcoming. “Political Judgment, Fiqh al-Wāqiʿ, and the Egyptian ʿUlamāʾ’s Response to the Arab Spring (2011-2013).” Journal of Islamic and Muslim Studies.

Amasha, Muhammad. 2023. “Ideals and Interests in Intellectuals’ Political Deliberations: The Arab Spring and the Divergent Paths of Egypt’s Shaykh al-Azhar Ahmad al-Tayyib and Grand Mufti Ali Gomaa.” American Journal of Islam and Society.

Amin, Nareman. 2021. “Revolutionary Religion: Youth and Islam in Post-2011 Egypt.” PhD dissertation, Princeton University.

Bano, Masooda, and Hanane Benadi. 2019. “Official Al-Azhar versus al-Azhar Imagined: The Arab Spring and the Revival of Religious Imagination.” Die Welt Des Islams 59 (1): 7–32. https://doi.org/10.1163/15700607-00591P02.

Bayat, Asef. 2017. Revolution without Revolutionaries: Making Sense of the Arab Spring. Stanford, California: Stanford University Press.

Bourdieu, Pierre, and Loïc J. D. Wacquant. 1992. An Invitation to Reflexive Sociology. Chicago: University of Chicago Press.

Drevon, Jerome. 2015. “The Emergence of Ex-Jihadi Political Parties in Post-Mubarak Egypt.” Middle East Journal 69 (4): 511–26.

———. 2016. “Embracing Salafi Jihadism in Egypt and Mobilizing in the Syrian Jihad.” Middle East Critique 25 (4): 321–39. https://doi.org/10.1080/19436149.2016.1206272.

———. 2022. Institutionalizing Violence: Strategies of Jihad in Egypt. New York: Oxford University Press.

El Sherif, Ashraf. 2016. “The Strong Egypt Party: Representing a Progressive/Democratic Islamist Party?” Contemporary Islam 10 (3): 311–31. https://doi.org/10.1007/s11562-016-0369-z.

Elston, Mary Beinecke. 2020. “Reviving Turāth: Islamic Education in Modern Egypt.” PhD dissertation, Harvard University. https://dash.harvard.edu/handle/1/37365713.

Hendawy, Abdallah. 2022. Bleeding Hearts : From Passionate Activism to Violent Insurgency in Egypt. Lanham: Lexington Books.

Hosni, Dina. 2013. “The Potential Rise of an Islamist Youth within 25 Jan Revolts.” Master Thesis, Cairo: American University in Cairo.

Lacroix, Stéphane. 2022. “Egypt’s Salafi Awakening in the 1970s: Revisiting the History of a Crucial Decade for Egyptian Islamic Activism.” Religions 13 (4): 316. https://doi.org/10.3390/rel13040316.

Lacroix, Stéphane, and Ahmed Zaghloul Shalata. 2016. “The Rise of Revolutionary Salafism in Post-Mubarak Egypt.” In Egypt’s Revolutions: Politics, Religion, and Social Movements, edited by Bernard Rougier and Stéphane Lacroix, translated by Cynthia Schoch and John Angell. Palgrave Macmillan.

Ladjal, Tarek, and Benaouda Bensaid. 2015. “Sufism and Politics in Contemporary Egypt: A Study of Sufi Political Engagement in the Pre and Post-Revolutionary Reality of January 2011.” Journal of Asian and African Studies 50 (4): 468–85. https://doi.org/10.1177/0021909614534170.

Lauzière, Henri. 2015. The Making of Salafism: Islamic Reform in the Twentieth Century. Columbia University Press.

Long, Baudouin. 2023. “In the Shadow of the Islamic State: Political Violence in Post-Revolutionary Egypt, 2013–2020.” The Journal of North African Studies 28 (5): 1072–1103. https://doi.org/10.1080/13629387.2023.2199985.

Matthies-Boon, Vivienne. 2017. “Shattered Worlds: Political Trauma amongst Young Activists in Post-Revolutionary Egypt.” The Journal of North African Studies 22 (4): 620–44. https://doi.org/10.1080/13629387.2017.1295855.

Moustafa, Tamir. 2000. “Conflict and Cooperation between the State and Religious Institutions in Contemporary Egypt.” International Journal of Middle East Studies 32 (1): 3–22.

Said, Atef Shahat. 2023. Revolution Squared: Tahrir, Political Possibilities, and Counterrevolution in Egypt. Durham: Duke University Press Books.

Schielke, Samuli. 2012. “Being a Nonbeliever in a Time of Islamic Revival: Trajectories of Doubt and Certainty in Contemporary Egypt.” International Journal of Middle East Studies 44 (2): 301–20.

———. 2017. “There Will Be Blood: Expectation and Ethics of Violence during Egypt’s Stormy Season.” Middle East Critique 26 (3): 205–20. https://doi.org/10.1080/19436149.2017.1336023.

The Freedom Initiative. 2023. “In the Shadow of Authoritarianism: Egyptian and Saudi Transnational Repression in the US.”

Waugh, Earle. 2008. Visionaries of Silence: The Reformist Sufi Order of the Demirdashiya al-Khalwatiya in Cairo. Cairo: American University in Cairo Press.

Wickham, Carrie Rosefsky. 2015. The Muslim Brotherhood: Evolution of an Islamist Movement. Princeton (N.J.): Princeton University Press.

[1] انظر نظرية الحقل عند بيير بورديو

Bourdieu & Wacquant 1992

[2] Wickham 2015

[3] للنظر فيمن يطلق عليهم السلفيون، ومن تسموا بها، واختلاف من تسموا بها بين سلفيين طهوريين وسلفيين حداثيين، انظر

Lauzière 2015

[4] للنظر في الفروق بينهما ودمجهما ثم انفصالهما وتأثيرهما على الحقل الإسلامي في السبعينيات، انظر

Lacroix 2022

[5] Drevon 2022

وفيه يرصد تطور الحركة الإسلامية وجماعات الجهاد.

[6] لمزيد من التفاصيل حول تطور هذا التيار، انظر

Drevon 2022

[7] Drevon 2015

[8] Moustafa 2000

[9]  Elston 2020

[10] عماشة ٢٠١٨

[11] Waugh 2008

[12] عماشة ٢٠١٨

Ladjal and Bensaid 2015

[13] Hosni 2013

[14] El Sherif 2016

[15] يعتمد هذا القسم بشكل رئيس على دراسة البقري ٢٠١٨، وفتوح ٢٠٢١

[16] https://www.facebook.com/MoicAssiut/posts/pfbid02Xof12BTCvgMqnFd7MMM3SigZ3fteEbABfHUfxkBrfRyYFavpJkyUCHQeTwMctJc8l

[17] البقري ٢٠١٨، ص ٥٩

[18] البقري ٢٠١٨، ص ٦٣

[19] Bano and Benadi 2019

[20] النقاش عن السلفيين الثوريين هنا معتمد على هذا الفصل

Lacroix and Shalata 2016

[21]  فتوح ٢٠١٩

[22] Schielke 2017; Said 2023

[23] Said 2023; http://gedarea.blogspot.com/2011/06/normal-0-false-false-false.html

[24] Long 2023

[25] Long 2023; Hendawy 2022

[26] Drevon 2015, p. 523

[27] Drevon 2016

[28] Long 2023; Hendawy 2022, P. 60

[29] Hindawy 2022, P. 79-80

[30]  عياش، عفيفي، عزت ٢٠٢٣

[31] Drevon 2016

[32] Amasha 2023

[33]  يعتمد هذا القسم على دراستي الميدانية و

Amin 2021

[34] Amin 269-276

[35] Elston 2020, P. 244

[36] مقابلة مع أحد الشباب الصوفيين المصريين

[37] عياش، عفيفي، عزت ٢٠٢٣

[38] Amasha, forthcoming

[39] Allam 2022

[40] Allam 2022, P. 14

[41] Matthies-Boon 2017; Abdelgawad and Magued 2022

[42] Bayat 2017, P. 179-187

[43] Schielke 2012

[44] انظر الباروميتر العربي أو المؤشر العربي أو World Value Survey

[45] The Freedom Initiative 2023.

الوسوم :
شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *