منظمة مجموعات التحفيز

تحفيز ميتشل.. وثورة النفط الصخري في أمريكا

مقالات اخرى

تحفيز ميتشل.. وثورة النفط الصخري في أمريكا

في عام 2005 كتب مايكل كلير الأكاديمي والكاتب الأمريكي المعروف في مجال أمن الطاقة، عن مستقبل احتياجات النفط والغاز الطبيعي للولايات المتحدة في كتابه “دم ونفط”، توقع “كلير” أنه بحلول عام 2020 سيتزايد الاعتماد الأمريكي على النفط الأجنبي بشكل هائل حيث ستستورد الولايات المتحدة كميات ضخمة من النفط تصل إلى ضعف ما كانت تستورده في عام 1990. لم تكن توقعات “كلير” بعيدة عن التوقعات السائدة في أمريكا في ذلك التوقيت حيث كانت الولايات المتحدة تعاني من نقص متزايد في إنتاجها من النفط والغاز بالإضافة إلى زيادة الطلب العالمي وارتفاع الأسعار، والذي أدى إلى تسليط الضوء في أمريكا بشكل متزايد على احتياجات النفط والغاز وكيفية الحصول عليها من مصادر متنوعة أو بمعنى آخر قدرة أمريكا على تأمين إمدادات الوقود في المستقبل.


لم يتخيل “كلير” أو أي متخصصٍ في مجال الطاقة وصناعة القرار الأمريكي أن تحولاً لافتا ووشيكا ستشهده الولايات المتحدة سيغير بشكل جوهري معادلة أمن الطاقة الأمريكية وسيكون له تأثيرات مهمة على صناعة النفط وأسواق النفط العالمية، وسيذهب بجميع التوقعات التي كانت سائدة حول واقع النفط والغاز في أمريكا إلى أدراج الرياح. يقف وراء ذلك التحول قصة تبدو مثيرة إلى حد كبير ولكنها في جوهرها تشير إلى أهمية روح التحفيز التي يتحلى بها القادة والمستثمرون والباحثون والفنيون في تحقيق نجاحات مميزة وعظيمة تسهم في تغيير الواقع وقلب التوقعات السائدة.


تبدأ القصة من عند جورج ميتشل وهو أحد المستثمرين في مجال الغاز في أمريكا، كان “ميتشل” يدرك أن احتياطات النفط والغاز تتراجع بشكل كبير أمام الطلب المحلي المتزايد، ما يعني اضطرار أمريكا في المستقبل لزيادة الواردات بشكل أكبر مما هي عليه واعتمادها بشكل متزايد على الدول المصدرة للوقود الأحفوري، لكن غالبية المستثمرين وصناع سياسات الطاقة الأمريكية كانوا مستسلمين لهذا الواقع، كان لدى “ميتشل” اهتمام متزايد بضرورة عدم الاستسلام ومواجهة هذا التحدي، وهو الأمر الذي دفعه إلى تحفيز العاملين لديه في الشركة -بشكل دائم- تجاه أهمية البحث والإبداع لإيجاد حلول غير تقليدية تسهم في زيادة إنتاج الشركة من الغاز الطبيعي وتغيير الواقع الأمريكي.


وفي عام 1981 قدم أحد الجيولوجيين العاملين في الشركة مسودة بحث، تبدو مختلفة بشكل جوهري عما هو سائد في الأوساط العلمية آنذاك. أشارت الورقة إلى الجدوى الاقتصادية وإمكانية استخراج الغاز من الصخر الزيتي “shale” وهي صخور كثيفة للغاية وكان ينظر إليها دائما في علوم الجيولوجيا وهندسة البترول بصعوبة استخراج النفط والغاز منها فضلا عن التكلفة الباهظة التي تجعل الأمر يبدو مستحيلاً. 


على الفور قرر “ميتشل” أن تكون إحدى المناطق في شمال ولاية تكساس هي منطقة الاختبار والتي سيقوم فيها العاملين بالشركة بحفر آبار ومحاولة استخراج الغاز الطبيعي من الصخر الزيتي بتقنيات جديدة. وعلى مدار عدة أعوام حاول العاملون بالشركة تحقيق نتائج ملحوظة، فقاموا باستخدام تقنية تعتمد على حقن السوائل تحت ضغط عالٍ في الصخر الزيتي لتكسيره وإطلاق النفط والغاز الموجود بداخله، وعُرفت هذه الطريقة بتقنية “التصديع” أو التكسير الهيدروليكي (Fracking)، ومع ذلك لم تسفر التجارب عن تحول لافت في إنتاج الغاز من الآبار. وبحلول عام 1998 كانت شركة “ميتشل” قد أنفقت الكثير من المال -حوالي ربع مليار دولار- على الآبار في منطقة الاختبار، وأعلن كثير من المتخصصين رغبتهم في الانسحاب من المشروع الذي بدا لهم أنه لن يحقق أي شيء سوى مزيد من إهدار المال.


كانت روح التحفيز التي حرص “ميتشل” على بثها في العاملين داخل شركته هي الملاذ الأخير للمستثمر الذي كان يعاني من خسائر كبيرة جعلته يفكر جديا في عرض شركته للبيع. وهنا تقدم أحد المهندسين في موقع الاختبار بطلب الموافقة على تجربة أخيرة لحفر بئر واحدة، كان ذلك هو المهندس “شتاينسبرجر” وهو أحد المتحمسين والمقتنعين بضرورة وجود حل فني واقتصادي للإنتاج من الزيت الصخري. قام “شتاينسبرجر” هذه المرة بضخ المياه والكيماويات كما كان يفعل في المرات السابقة أثناء الحفر ولكنه أضاف الرمال ببطء أثناء عملية الضخ. كانت نتائج البئر مفاجئة للجميع حيث بدت مختلفة إلى حد كبير عن الآبار السابقة، وهنا أدرك “ميتشل” والعاملون في الشركة أنهم أمام نقطة تحول حقيقة، وبمعنى آخر كانت تلك اللحظة بمثابة لحظة فك شفرة النفط الصخري.


خلال عامين فقط من تجربة البئر الناجحة، تزايد إنتاج الغاز في شركة “ميتشل” للطاقة بأكثر من الضعف، ولم يكتفِ العاملون بالشركة فقط باستخدام التقنية الجديدة؛ لكنهم أضافوا معها استخدام الحفر الأفقي والذي أسهم في طفرة كبيرة في زيادة الإنتاج. نظر كبار مستثمري النفط والغاز في الولايات المتحدة بجدية إلى التقنية الجديدة وانطلقت الشركات الأمريكية في سباق محموم لاستخدام تلك التقنية في استخراج النفط والغاز الطبيعي من الصخر الزيتي. وهكذا ومع بداية الألفية الجديدة ظهر ما يُعرف بثورة النفط الصخري في أمريكا والتي بدأت خلال إدارة جورج دبليو بوش وتطورت بشكل هائل في عهد باراك أوباما.


بعد عقدين تقريبا من التجارب في منطقة صغيرة بولاية تكساس والتي شهدت محاولات وإخفاقات ومثابرة وتحفيز ونجاح مثير في نهاية المطاف، تخطت الولايات المتحدة روسيا والسعودية وأصبحت أكبر منتج للنفط عالميا، حيث بلغ إنتاج أمريكا في عام 2023 ما يناهز 19.3 مليون برميل يومياً. ويمثل إنتاج أمريكا من النفط في الوقت الراهن خمس الإنتاج العالمي، كما تحولت الولايات المتحدة بسرعة إلى مُصدّر رئيسي للنفط الخام ومنتجات البترول وذلك بعد أن رفعت حظر التصدير عن النفط في عام 2015. كما أصبحت الولايات المتحدة أكبر منتج للغاز الطبيعي عالميا حيث وصل إنتاجها في عام 2023 إلى تريليون متر مكعب، وتجاوزت أمريكا كلا من قطر وأستراليا لتصبح أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال (LNG) في العالم.


لم تكن ثورة النفط والغاز الصخري الأمريكي مجرد حدث يُعبّر عن التطور التكنولوجي والاستثمارات الضخمة والتحول في سياسات الطاقة؛ لكنّها في الواقع كانت قصة تحكي عن تضافر الجهود بين المستثمرين والباحثين والمتخصصين الفنيين الذين جمعهم: إيمان عميق بضرورة تغيير واقع النفط والغاز الطبيعي في بلادهم، وتجاوز التحديات والمحاولة والمثابرة لتحقيق أنجاز غبر مسبوق. تمثل هذه القصة نموذجا لنتائج التحفيز الإيجابي وما يمكن أن يقدمه أفراد المجتمع باختلاف تخصصاتهم وأدوارهم، وكيف يمكن أن يسهم ذلك التحفيز في إلهام الآخرين لمواصلة جهودهم وتحقيق النجاحات الفردية والجماعية.

الوسوم :
شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *