تهجير الفلسطينيين: هل يُعاد رسم خرائط الشرق الأوسط على حساب مصر
تقرير أعده الباحث: محمد عطا
تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء ليس مجرد اقتراح سياسي عابر، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة رسم المشهد الجيوسياسي للمنطقة، فهل يمكن أن يُعاد ترتيب المشهد المصري بشكل فعال لتجاوز هذه التحديات؟
جاءت الخطة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لتهجير سكان غزة إلى دول الجوار، في سياق سياسي متوتر عقب وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، مما زاد من تعقيد المشهد الإقليمي وأثار تساؤلات حول النوايا الحقيقية والمخاطر المترتبة على تنفيذ هذه الخطة.
من وجهة نظر بعض المحللين البارزين، فإن هذا المخطط يمثل جزءًا من تحول أوسع في السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. فقد أشار نعوم تشومسكي إلى أن “إسرائيل تسعى منذ عقود إلى تقليل عدد الفلسطينيين على أراضيها بطرق مباشرة وغير مباشرة، وهذه الخطة تأتي في هذا السياق”. كما يرى فريد زكريا في مقاله بـ واشنطن بوست أن “إجبار الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم لن يكون مجرد أزمة إنسانية، بل سيؤدي إلى زعزعة استقرار مصر والشرق الأوسط بأكمله”.
وبينما يرفض النظام المصري رسميًا أي حديث عن القبول بهذا المخطط، فإن تصاعد النقاشات حوله في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية يثير العديد من التساؤلات حول مدى جدية هذا الطرح، وكيف يمكن استغلاله سياسيًا من قبل الأطراف المختلفة.
فكرة قديمة متجددة
مسألة التهجير ليست وليدة اللحظة، فقد طُرحت هذه الفكرة في أكثر من مناسبة، خاصة خلال العقود الماضية التي شهدت صراعات متكررة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية. فقد سبق أن نوقشت هذه القضية في أروقة الدبلوماسية الدولية تحت عناوين مثل “الحلول غير التقليدية” للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث وردت مقترحات حول إعادة توطين الفلسطينيين في دول الجوار.
على سبيل المثال، في عام 1982، خلال الغزو الإسرائيلي للبنان، سعت تل أبيب إلى إعادة توزيع اللاجئين الفلسطينيين بين الدول المجاورة. كما كشفت وثائق بريطانية رفعت عنها السرية أن الحكومات الغربية ناقشت خلال الستينيات سيناريوهات مشابهة لتخفيف الضغط عن إسرائيل. ويبدو أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب أعاد إحياء هذه الفكرة تحت مظلة “إعادة توطين الفلسطينيين” كجزء من حل إقليمي أوسع.
دروس من التاريخ
إذا أردنا مقارنة هذا السيناريو الذي ينذر بكارثة، بحق شعب فلسطين، بأحداث تاريخية مشابهة، فإن تجربة اللاجئين الفلسطينيين في الأردن ولبنان تقدم دروسًا هامة. فعلى سبيل المثال، بعد نكبة 1948، تم تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى الدول المجاورة، مما خلق تحديات سياسية وأمنية مستمرة حتى اليوم. كذلك، تجربة تهجير المسلمين من البوسنة خلال حرب البلقان في التسعينيات تُعد نموذجًا آخر على الكيفية التي يمكن أن تؤدي بها سياسات التهجير القسري إلى اضطرابات طويلة الأمد.
ففي البلقان، اندلعت حرب البوسنة (1992-1995) بعد تفكك يوغوسلافيا، حيث سعت القوات الصربية إلى تطهير مناطق من المسلمين البوسنيين، مما أدى إلى تهجير مئات الآلاف من السكان من منازلهم. وشهدت مجزرة سربرنيتسا عام 1995 مقتل أكثر من 8000 رجل وطفل بوسني على يد القوات الصربية، في واحدة من أسوأ الفظائع في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. يشابه هذا الوضع بعض السيناريوهات التي يُطرح فيها تهجير الفلسطينيين، حيث يتعرض السكان المدنيون لضغوط سياسية وعسكرية تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الديموغرافي لصالح قوة مهيمنة.
أما أزمة الروهينغا، فقد بدأت بشكل حاد في عام 2017 عندما شنت القوات المسلحة في ميانمار حملة تطهير عرقي ضد أقلية الروهينغا المسلمة، مما أدى إلى نزوح أكثر من 700 ألف شخص إلى بنغلادش. وواجه اللاجئون ظروفًا قاسية في المخيمات، مع عدم وجود أي خطة واضحة لإعادتهم إلى وطنهم أو إدماجهم في المجتمع الجديد. مثلما هو الحال في سيناريو تهجير الفلسطينيين، فإن الروهينغا لم يُعرض عليهم حل دائم، بل ظلوا عالقين في حالة من اللجوء القسري، بلا حقوق قانونية واضحة ولا دعم كافٍ من المجتمع الدولي.
ما يجمع بين هذه النماذج التاريخية أن جميعها بدأت كحلول مؤقتة أو استراتيجيات قصيرة المدى لمعالجة نزاعات سياسية أو عسكرية، لكنها تحولت إلى أزمات طويلة الأمد ذات تداعيات إنسانية وسياسية كارثية. وربما كان ترمب أوضح في نموذج غزة حيث أجاب بأن هذا الحل “التهجير” مؤقت ويمكن أن يطول، عندما سُئل عن المدى الزمني، من هنا، فإن دراسة هذه التجارب قد توفر رؤية مستقبلية حول المخاطر المحتملة لمخططات التهجير التي يجري الحديث عنها اليوم.
الفرص السياسية للمعارضة والسلطة في مصر
من الناحية السياسية، تمثل هذه الخطة ورقة بالغة الحساسية يمكن توظيفها بطرق متعددة. فبالنسبة للحكومة المصرية، يشكل الرفض العلني القاطع لهذا الطرح فرصة لتعزيز مكانتها الإقليمية، وإبراز دورها كحامٍ للسيادة الوطنية، وكمدافع عن الحقوق الفلسطينية. لكن في الوقت نفسه، يمكن استخدامها أيضًا كورقة ضغط على القوى الكبرى لضمان تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية معينة، خصوصًا في ظل ما تواجهه مصر من تحديات اقتصادية حادة.
أما المعارضة المصرية، سواء في الداخل أو الخارج، فقد وجدت في هذه القضية فرصة لتسليط الضوء على ما تعتبره ضعفًا في قدرة الحكومة المصرية على مواجهة التحديات الخارجية. إذ ترى المعارضة أن مجرد طرح الفكرة في الأوساط السياسية والإعلامية يعكس وجود ضغوط حقيقية على القاهرة، حتى وإن كان الموقف الرسمي يرفضها. من جهة أخرى، تسعى المعارضة المصرية في الخارج إلى استدعاء مفهوم التوافق الوطني بعد سنوات من غياب أي حالة للتوافق مع النظام، حتى وإن كان هذا التوافق غير مبني على أسس قوية، ولكنها فرص يعتبرها البعض هامة لما يمكن أن يترتب عليها من إعادة ترتيب المشهد السياسي المصري بما يأتي في صالح الوطن في النهاية.
يمكن للفرقاء السياسيين المصريين استغلال الإجماع على رفض التهجير سياسيًا لتعزيز فرص الحوار الداخلي وتشكيل موقف وطني موحد يتجاوز الاستقطاب السياسي الذي تعيشه البلاد. فعلى الرغم من انقسام المجتمع المصري سياسيًا ووجود مناخ غير صحي للحوار السياسي، فإن رفض التهجير يمكن أن يكون نقطة انطلاق لتقريب وجهات النظر بين مختلف القوى السياسية. غير أن هذا يتطلب تجاوز خطاب التخوين الذي مارسه بعض الإعلاميين التابعين للنظام، إذ أن مثل هذه القضايا الوطنية لا يجب أن تكون مجالاً لتصفية الحسابات السياسية، بل ينبغي أن تكون منطلقًا لصياغة مشروع سياسي وطني قادر على مواجهة التحديات الإقليمية.
يجب تفعيل مؤسسات الدولة
في هذا السياق، لا يمكن لمصر أن تظل دولة تعتمد على سلطة فرد، أي رئيس الجمهورية وحده، في اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بالأمن القومي، وهو ما يبرز الحاجة إلى إعادة تفعيل دور المؤسسات مثل مجلس النواب، ليكون شريكًا فاعلاً في صياغة السياسات الكبرى للدولة. الانتخابات النيابية المرتقبة هذا العام يجب أن تكون فرصة للقوى السياسية للاستعداد لطرح رؤية متماسكة حول كيفية إدارة الملفات الحساسة، ومن ضمنها ملف الأمن القومي. ومن شأن إعادة إحياء الحياة السياسية أن توفر آليات أكثر فاعلية في التعامل مع مثل هذه القضايا الحساسة بدلًا من الاكتفاء بالمواقف الرسمية الأحادية.
في ظل هذه التطورات، يبقى السؤال الرئيسي: إلى أي مدى تستطيع القاهرة الصمود أمام هذه الضغوط، وما هي التداعيات المحتملة لأي انخراط مصري في هذه الخطة؟ فبينما يظل الموقف الرسمي المصري ثابتًا في رفضه، فإن المتغيرات السياسية والدبلوماسية قد تفرض على القاهرة مواقف أكثر تعقيدًا في المستقبل القريب. وما لم يتم التعامل بحذر مع هذا الملف، فقد تتحول الأزمة إلى نقطة اشتباك إقليمي ذات تداعيات طويلة الأمد، ليس فقط على مصر، بل على المنطقة بأسرها.
تهجير الفلسطينيين: هل يُعاد رسم خرائط الشرق الأوسط على حساب مصر