حرب فيتنام: نموذج مقاوم يلهم حركات التحرر
إعداد: منظمة مجموعات التحفيز
“إن الفشل في فيتنام لن يبقى محصورًا في فيتنام وحدها. إن الفخ الذي وقعنا فيه هناك سيلاحقنا في كل ركن من هذا العالم الثوري إذا لم نقم بتقييم دروسه بشكل صحيح”
كانت هذه الكلمات التي صرخ بها السيناتور والمرشح الرئاسي الأمريكي السابق، جورج ماكجفرن (George McGovern)، أثناء كلمته في قاعة الكونجرس في سبتمبر عام 1964، محذرا القادة الأمريكان آن ذاك من التمادي في حرب فيتنام التي ستخلف خسائر فادحة لأمريكا.
لقد صدق ظن ماكجفرون، الذي لم يكن مدنيا بالمناسبة ـ بل كان محاربا طيارا من أشرس المحاربين الأمريكان في الحرب العالمية الثانيةـ وأدت الحرب إلى خسارة ما يقرب من 60 ألف جندي أمريكي، بالإضافة إلى ما يقرب من 3 ملايين قتلوا خلال مجمل الحرب، وفي النهاية انسحبت أمريكا من فيتنام.
إن ماكجفرون، وإن كان ينظر في تحذيره هذا إلى مصلحة دولته الداخلية، لكنّ الأمر يحمل معان أخرى يمكن الإشارة إليها من خلال هذه الورقة، وأبرز هذه المعاني وأكثرها تجليا هي فكرة “المقاومة” إذ كيف يمكن للمقاومة أن تصنع المستحيل وتتغلب على القوى العظمي وتفاجئ الجميع دائما بأن الحق قوي في ذاته وإن دافع عنه قلة أمام كثرة مدججة بالأسلحة.
وتسعى هذه الورقة إلى الاقتراب من نموذج المقاومة وطبيعته العصية على الاندثار، من خلال النموذج الفيتنامي.
بداية الحرب
بدأت المقاومة الفيتنامية ضد القوى الاستعمارية الفرنسية واستمرت لعقود، لكنها بلغت ذروتها مع تصاعد التدخل الأميركي في الستينيات.
وشكلت الولايات المتحدة -المدفوعة بأهداف الحد من انتشار الشيوعية- قوة عسكرية ضخمة في فيتنام، إلا أن الفيتناميين نجحوا في تنظيم أنفسهم عبر قوات “الفييت كونغ” وحزب العمال الشيوعي في الشمال واتخذت المقاومة الفيتنامية منحنى تحوليًا، فقد أصبحت مزيجًا من الكفاح المسلح والتأثير السياسي، مما جعل منها حربًا نفسية وعسكرية واقتصادية معقدة.
بدأت الحرب فعليا عندما وجدت أميركا الفرصة سانحة لقصف شمال فيتنام ردا على هجوم نفذته قوات جبهة التحرير الوطني في خليج تونكين على سفن أمريكية، فما كان من الرئيس الأميركي جونسون إلا أن أصدر الأوامر إلى الطيران العسكري الأميركي بقصف المواقع الفيتنامية.
ذروة المعارك وسياسة الطور الهائج
توالى القصف الأمريكي على فيتنام الشمالية منذ فبراير 1965، وظل الوجود العسكري الأميركي يزداد في فيتنام ليبلغ في نهاية 1965 ما يناهز مائتي ألف جندي، ثم وصل في عام 1968 إلى 550 ألفا.
وظلت أميركا تضغط على هانوي (عاصمة الشمال) من أجل ترك دعم الثوار الجنوبيين، لكنّها واجهت رفضا وإصرارا من أهل الشمال الذين قرروا عدم التفاوض ما دام القصف الأمريكي مستمرا.
لم تترك أميركا أي وسيلة عسكرية للضغط على هانوي إلا استعملتها، بدءا بالتجميع القسري للسكان ومرورا بتصفية الثوار الشيوعيين الموجودين في الأرياف الجنوبية وانتهاءً بتكثيف قصف المدن والمواقع في الشمال الفيتنامي.
ومع ذلك لم تؤثر الآلة الحربية المتطورة الأمريكية في معنويات الفيتناميين ولا في مقاومتهم، بل تفرقوا في الأرياف ومراكز الإنتاج الزراعي وتعززت فيهم معنويات المقاومة.
وفي أكتوبر 1966 حاولت أمريكا مرة أخرى أن تفرض إرادتها على الشمال فأعلنت -مع حلفائها- استعدادهم للانسحاب إذا تخّلت فيتنام الشمالية عن دعم المقاومة، وهو ما رفضه الشماليون بصرامة.
ولم تثمر دعوة الرئيس الأميركي جونسون، الزعيم السوفياتي كوسيغين إلى الضغط على هانوي لإنهاء الحرب عندما التقيا في يونيو 1967، بل ظلت نيران الحرب مشتعلة، فما كان من الرئيس جونسون إلا أن ضاعف أعداد الجنود الأميركيين في فيتنام ليصل عددهم عام 1968 إلى 525 ألفا، كما أصبح القصف الأميركي للمواقع الشمالية قاب قوسين أو أدنى من الحدود الصينية.
تكتيكات المقاومة: حرب العصابات و”القوة الناعمة”
على الرغم من الدعم الخارجي لمقاومة الشعب الفيتنامي، والذي يمثله الاتحاد السوفيتي والصين، اعتمد الفيتناميون على أنفسهم من خلال تعبئة شعبية ضخمة وتحويل المجتمعات المحلية إلى خلية دعم مستدامة للمقاومة.
كان اعتماد الفيتناميين على حرب العصابات أحد أبرز أسباب نجاحهم، إذ استغلوا البيئة الجغرافية والغابات الكثيفة، وأعدّوا شبكات أنفاق تحت الأرض، مثل أنفاق “كو تشي”، التي مكنتهم من التحرك بحرية وتنفيذ هجمات سريعة ضد القوات الأميركية.
من الناحية العسكرية، اعتمدوا على هجمات الكرّ والفرّ واستهداف مناطق ذات أهمية استراتيجية، مما أصاب القوات الأميركية بالإرهاق وشكّل تحديًا كبيرًا لقدرتها على السيطرة.
إلى جانب العمل العسكري، أدرك الفيتناميون أهمية كسب الدعم الشعبي والإعلامي، فقد استغلوا وسائل الإعلام العالمية لنقل صور المعاناة التي يتعرضون لها، مما أثر بشكل مباشر على الرأي العام الأميركي، وأدى إلى تراجع التأييد الشعبي الأميركي للحرب.
هذا التكتيك يظهر مدى قدرة الحركات المقاومة على التأثير ليس فقط في المعركة، بل في الرأي العام الدولي أيضًا.
الحاضنة الشعبية
كان العنصر الشعبي من أهم عوامل استدامة المقاومة الفيتنامية، حيث شكلت الإيديولوجية الوطنية التي غذّاها الحزب الشيوعي أساسًا لدعم شعبي واسع النطاق.
تحول الفيتناميون إلى وحدة مجتمعية متماسكة، شارك فيها جميع الفئات، بما في ذلك النساء والأطفال، في أعمال المقاومة من خلال جمع الإمدادات، وتوفير المعلومات الاستخبارية، والمشاركة في الأنشطة العسكرية عند الضرورة.
تعدّ هذه الوحدة والتعبئة الشاملة من الدروس الأساسية التي يمكن أن تستفيد منها حركات التحرر المعاصرة. فالمقاومة ليست مجرد صراع عسكري، بل هي عملية شاملة تتطلب استنهاض الشعب بالكامل وتوجيه الجهود نحو هدف موحد، مما يعزز قوة المقاومة واستدامتها.
الدعم الخارجي واستراتيجيات التضامن
لم تكن فيتنام معزولة في كفاحها، فقد حظيت بدعم دولي قوي من الاتحاد السوفيتي والصين، وهو ما مكّنها من مواصلة المقاومة وتوفير الأسلحة والموارد. ورغم القيود الجغرافية والسياسية، استمر تدفق هذا الدعم بفضل قنوات متعددة واستعداد الأطراف الداعمة للالتزام بمتطلبات الحرب.
في الوقت الحاضر، يمكن أن تكون الحركات المقاومة المعاصرة، مثل المقاومة الفلسطينية، قادرة على تحقيق إنجازات أكبر إذا ما تمكنت من تعزيز قنوات الدعم الدولية، فالدعم السياسي والاقتصادي، إضافة إلى التضامن الشعبي عبر العالم، يعدّ من الركائز التي يمكن أن تعزز الموقف السياسي والعسكري للمقاومة.
الأخطاء الاستراتيجية للولايات المتحدة وأثرها
لا يمكن إغفال الأمر الهام المتعلق بأخطاء أصحاب القوة المتكررة عبر التاريخ، فأحد الأخطاء الحاسمة التي أدت إلى خسارة الولايات المتحدة للحرب في فيتنام هو سوء تقديرها لمدى عزم الفيتناميين في الشمال وفشلها في فهم الصراع بوصفه حربا تتعلق بالهوية الوطنية أكثر من كونه امتدادًا للشيوعية.
تبنت أميركا استراتيجية حرب الاستنزاف، معتقدةً أن قتل أكبر عدد ممكن من الجنود الشماليين سيؤدي إلى إنهاء الحرب، لكن هذه الاستراتيجية باءت بالفشل.
ووفقًا لتصريحات وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت مكنمارا، فقد أخفقت الولايات المتحدة في فهم عمق التطلعات الوطنية للفيتناميين، مما قادها إلى الغوص في حرب مكلفة دون تحقيق الأهداف المرجوة.
يقول مكنمارا إن هذا الفشل كان بسبب غياب الفهم الصحيح للثقافة والسياسة الفيتنامية، مما أدى إلى توسع التدخل الأميركي بطريقة لم تخدم مصالح الولايات المتحدة.
وعند المقارنة بين المقاومة الفيتنامية والحركات المقاومة الحديثة، نجد أن الكثير من الاستراتيجيات التي استُخدمت لا تزال فعالة، مثل حرب العصابات وكسب الدعم الشعبي. ومع ذلك، يواجه مقاومو اليوم تحديات أكثر تعقيدًا، بما في ذلك افتقاد الدعم الدولي وافتقاد الإمداد المطلوب من القوة العسكرية والاقتصادية.
لكن مع ذلك، فإن الولايات المتحدة وإن كانت لم تدخل بشكل مباشر في هذه الحرب، لكنّها لم تتعلم الدرس المتعلق بطبيعة المقاومة ودوافعها، فتظل تدعم إسرائيل بدون حساب أو إدراك لطبيعة المعركة، وهو ما سينتج عنه شدة للمقاومة على الأقل نفسية وإن لم تتوفر أسباب دعمها العسكري والاقتصادي حاليا.
خاتمة
تؤكد تجربة المقاومة الفيتنامية أن الصراع من أجل الحرية لا يعتمد فقط على القوة العسكرية، بل يتطلب قوة معنوية ونفسية، ودعمًا شعبيًا واسع النطاق.
إن مواجهة القوى العظمى ليست بالأمر السهل، لكن الفيتناميين أثبتوا أن الإرادة الشعبية والاستراتيجية الذكية يمكن أن تشكل أساسًا للنصر، وأن هناك دائما متسعا لسعة الحيلة والتغلب على الصعاب.
ومع استمرار الحركات التحررية في مواجهة تحديات مشابهة، يبقى نموذج حرب فيتنام مصدر إلهام ودليلًا على قدرة الشعوب على تحقيق التحرر مهما كانت العقبات.
حرب فيتنام: نموذج مقاوم يلهم حركات التحرر