منظمة مجموعات التحفيز

رؤية استراتيجية للأجور في مصر

مقالات اخرى

رؤية استراتيجية للأجور في مصر

رؤية استراتيجية للأجور في مصر

 

 

 

لطالما شعر الموظفون/العمال في مصر بانخفاض الأجور التي يتقاضونها نظير ما يقدمونه من عمل. قامت ثورة يناير وكان من أهم شعاراتها: عيش حرية عدالة اجتماعية. ثُلثا هذا النداء متعلق باحتياجات اقتصادية (عيش، وعدالة اجتماعية).

 

تطالعنا الأخبار كل فترة بزيادة في الحد الأدنى للأجور، وعلى الرغم من ذلك ترتفع معدلات الفقر أيضا، إن ما سبق يجلي لنا حقيقة مهمة، أنّ هيكل الأجور في مصر يعاني من مشكلات هيكلية عديدة، تسعى هذه الرؤية المختصرة لرصد بعض تلك المشكلات وتقديم حلول لها.

 

سأحاول عرض بعض المشكلات المتعلقة بقيم الأجور في مصر، ثم أنتقل إلى الحديث عن معالجة أوسع لملف الأجور، مع اعتقادي أنّ كلا الأمرين يُكمّل بعضهما؛ فلا يمكننا حصر الموضوع فقط في إعطاء الموظف/العامل مقابل أعلى مما يحصل عليه الآن، ثم يجد أنّ القوة الشرائية منهارة، وعلى عكس ذلك لا ينبغي لأي حكومةٍ الادعاء بأنها تعمل على رفع القوة الشرائية والضبط العام للأسعار في ظل حصول العامل على أجر بخس نظير ما يقدمه من عمل.

 

 

بعض المشكلات المتعلقة بتحديد قيم الأجور في مصر:

 

 

1- الراتب الأساسي أقل من البدلات والمكافآت[1]

تُظهر بيانات مشروع موازنة 2023/2024، أن إجمالي مخصصات الرواتب الأساسية للوظائف الدائمة في الحكومة يبلغ 102 مليار جنيه، وللوظائف المؤقتة 9.9 مليارات جنيه، أي أن إجماليهما 111.9 مليار جنيه، بينما المكافآت للعاملين في الحكومة 170 مليار جنيه.

وهنا تظهر أولى مظاهر الخلل، فمخصصات بند المكافآت، أكبر من مخصصات بند الرواتب الأساسية، ففي حين تبلغ نسبة الرواتب الأساسية 23.8% من إجمالي مخصصات الأجور وتعويضات العاملين، نجد أن نسبة المكافآت 36.1%.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبالإضافة إلى زيادة المكافآت عن الرواتب الأساسية، هناك أيضا البدلات، والتي تزيد أيضا عن مخصصات الرواتب الأساسية، حيث تبلغ مخصصاتها الإجمالية 133.6 مليار جنيه، وهو ما يعادل 28.4% من إجمالي مخصصات بند الأجور وتعويضات العاملين.

الآثار السلبية لما سبق تتجلى في المعاش التقاعدي الذي يحصل عليه العامل بعد وصوله لسن التقاعد؛ إذ تُحتسب قيمته بناء على قيمة الراتب الأساسي، وليس على إجمالي الدخل.

والحل المقترح لعلاج تلك المشكلة هو الانتقال إلى هيكل للأجور يجعل من الرواتب الأساسية القيمة أو النسبة الأكبر من مكون دخل الموظف الحكومي، وأن تكون المكافآت والبدلات هي الجزء الأقل، وبالإضافة إلى ذلك يكون منح المكافآت والبدلات بناء على المجهود الذي يبذله العامل.

 

 

2- اختلاف الرواتب بين الوظيفة الواحدة من مؤسسة لأخرى[2]

يُلاحظ في كثير من المؤسسات الحكومية المصرية اختلاف الدخل بين الوظيفة نفسها من مؤسسة حكومية لأخرى؛ على سبيل المثال المحاسب في الإدارة المحلية دخله أقل بكثير من نظيره في شركات الكهرباء، أو قطاع البترول، وذلك بسبب اختلاف فئات المكافآت والبدلات المتعددة بين تلك المؤسسات. علما بأن الراتب الأساسي متساو بالنسبة للجميع، لكن نظام الحوافز والبدلات هو ما يصنع هذا الفارق. والعلاج هو الحل المقترح نفسه لعلاج المشكلة السابقة، وهو تعديل هيكل الأجور في مصر، ليكون الراتب الأساسي هو النسبة الأكبر من دخل الموظف الحكومي، وأن تكون البدلات والمكافآت هي الهامش الأقل. بجانب ذلك يكون هناك حد أدنى لكل مهنة، ويخضع لهذا الحد كل المهن في مختلف المؤسسات.

 

 

3- بعض المشكلات المتعلقة بالحد الأدنى للأجور

كان من ثمار ثورة الخامس والعشرين من يناير تطبيق الحد الأدنى للأجور، والذي طالما نادى به المصريون منذ أمد بعيد. وما أراه أن ثمة مشكلات متعلقة بالحد الأدنى للأجور[3]، وهي:

 

 

أ. ضعف الرقم:

في الوقت الحالي يُقدر الحد الأدنى لأجر العامل في القطاع الخاص بـ 6000 جنيه؛ أي ما يعادل 126.19 دولارا أمريكيا، طبقا لسعر صرف الرسمي للجنيه المصري أمام الدولار[4]. إذا افترضنا أنّ الموظف ينفق على أسرة مكونة من 4 أفراد؛ فطبقا لخط الفقر الذي أعلنه البنك الدولي يحتاج الفرد من الدولار إلى 2.15 في اليوم[5]، أي تحتاج تلك الأسرة إلى 258 دولارا في الشهر. من كل ما سبق يمكننا القول إن هذا الحد الأدنى يحتاج إلى زيادة أكثر من 100% لكي يجعل أي أسرة تعيش على حد الفقر!

 

 

في السياق ذاته، قد يجادل بعض المهتمين بأن إقرار حد أدنى للأجور له بعض التأثيرات السلبية على مستوى التشغيل، نعم يُقال ذلك بقوة في كثير من الأدبيات الاقتصادية، لكن في الحقيقة إنّ هذه النظرة قد ثبت عدم صحتها حديثا؛ حيث أثبتت بعض الدراسات أن المناطق التي رفعت الحد الأدنى للأجور قد شهدت تشغيلا أكبر من المناطق التي لم ترفع الحد الأدنى للأجور لأسباب متعددة، منها زيادة الطلب على العمالة في الفئات الأدنى أكثر من انخفاض الطلب على العمالة في قمة الهرم الوظيفي، أو تغيرات في طلب العمالة في القطاعات الاقتصادية المختلفة، كما أن تأثير ارتفاع تكلفة عنصر العمل يعد محدودا بالمقارنة بتأثير الارتفاع المتوقع في تكلفة مدخلات الإنتاج الأخرى، وأشارت النتائج أيضا إلى أن تسريح العمال وتخفيض معدل التشغيل، يعد من أصعب القرارات على أصحاب الأعمال في حال وجود قوانين تضمن حقوق العمال. كما أن قنوات التصحيح الآلية تعمل على تصفية الآثار العكسية المتوقعة على التشغيل، من خلال نقل الطلب على نوعيات أخرى من العمالة، أو من خلال مطالبات أصحاب العمل بتعديلات في إنتاجية العامل، أو برفع الكفاءة، وكذا ارتفاع الطلب بفعل الانتعاش الاقتصادي الناتج عن زيادة الأجور[6].

 

 

ب. الزيادة السنوية لا تواكب التضخم:

أحد العيوب الذي يكتنف تطبيق الحد الأدنى للأجور في مصر أن الزيادة السنوية لا تواكب التضخم. فمنذ إقرار أول قيمة للحد الأدنى للأجور في مصر حتى الآن يُلاحظ أن الزيادات تتم بشكل عشوائي وغير منهجي من خلال قرارات إدارية متباعدة ومركزية، وليست بقدر الزيادة التي تحدث في غلاء المعيشة، والتي يمكن معرفتها من خلال معدلات التضخم. نقترح إذن أن يُعاد تشكيل المجلس الأعلى للأجور بحيث يضم ممثلين أكثر عن الاتحادات العمالية، وأن يكون هناك إطار قانوني لاجتماع المجلس سنويا، وإقرار زيادة عادلة للحد الأدنى للأجور تطبق على كلا من القطاع العام والخاص من دون استثناءات. قد تكون قيمة هذا الحد مبلغا معينا ثابتا بالدولار، أو صورة المبلغ الذي يمكنه شراء سلة معينة من السلع الأساسية، يعاد تقييمها مطلع كل سنة مالية[7].

 

 

ج. أعراض جانبية للتطبيق:

هناك من يرى أنّ تطبيق حد أدنى للأجور مرتفع قد يعرض العاملين في الاقتصاد غير الرسمي للظلم بسبب فارق الأجور، وإزاء هذه النقطة يمكننا القول إن تطبيق حد أدنى للأجور سيساعد العاملين في الاقتصاد غير الرسمي في التفاوض على أجر أعلى مما يحصلون عليه حاليا، وذلك نظرا لارتفاع متوسط الأجور بشكل عام، بجانب ذلك ينبغي أن تستمر الدولة في محاولة نقل الأنشطة الاقتصادية إلى الاقتصاد الرسمي؛ مما سيوفر للعاملين تأمينا اجتماعيا، وشروطا أفضل للعمل.

 

 

د. الانتباه للعمالة الهشة في سوق العمل المصري:

يمكن تقسيم الفئات الهشة في سوق العمل المصري إلى ثلاث فئات رئيسة: الأولى تعمل بشكل غير رسمي، أي من دون تعاقد قانوني وتغطية تأمينية، والثانية تعمل بصفة رسمية لكن بعقود مؤقتة و/أو حسب الطلب، والثالثة تعمل بصفة رسمية لكن في مهن ذات طابع مؤقت كالعاملين في قطاعات الإنشاءات والسياحة وغيرها. تزايدت هذه الأنماط في علاقات العمل في مصر بالتزامن مع التحول إلى السوق الحر منذ تسعينيات القرن الماضي، ورتب ذلك أوضاعا هشة للعمالة تراكمت عبر الزمن، كما جاءت الأزمات الأخيرة لتسلط الضوء على هشاشة أوضاع العمل لدى تلك الفئات[8].

 

 

أظهر مسح سوق العمل المنشور بواسطة مركز البحوث الاقتصادية بالتعاون مع الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن 39% من سوق العمل المصري مبني على الوظائف غير الرسمية، وأن القطاع الحكومي يمثل فقط 26% من نسبة الوظائف، في حين أن مساهمة القطاع الخاص الرسمي مقتصرة على 12% من سوق العمل[9].

تظهر البيانات السابقة الزيادة الكبيرة في نسبة اللارسمية في سوق العمل المصري، وفي هذا الصدد؛ أقترح الآتي فيما يتعلق بالعمالة الهشة وأجورها:

 

 

– تبني الدولة خطة شاملة لضم الاقتصاد غير الرسمي إلى الاقتصاد الرسمي، بما سيضمن حصول العاملين على مقابل لا يقل عن الحد الأدنى للأجور، وكذلك تمتعهم بميزات الضمان الاجتماعي.

– تطبيق سياسة تأمين (إعانة) البطالة حيث نص قانون التأمينات 148 لسنة 2019، ولكن واقعيا لا يوجد تطبيق لهذا التأمين على أرض الواقع -إلا في نطاق محدود للغاية-. لذا أقترح أن تُفَعّل الدولة هذا التأمين، بجانب ذلك يجب نشر الوعي بين العمال بوجود هذه التأمين، وتوفير طرق ميسرة للتقديم عليه[10].

– تشجيع الشركات على تسجيل العمالة المؤقتة من خلال حوافز ضريبية أو تسهيلات في المشاريع، وربط الزيادة في تلك الحوافز بالزيادة في تسجيل العاملين، وضمان حصولهم على حقوقهم المادية.

 

 

الأمر أكبر من القيمة الرقمية للأجور

رصدت النقاط السابقة مجموعة من المشكلات المهمة المتعلقة بطريقة تحديد قيمة الأجور وحسابها في مصر، لكن الأمر بلا شك أكبر من ذلك بكثير. فعلى مدار الأعوام الماضية حدثت أكثر من زيادة للحد الأدنى للأجور، ومع الإقرار بأن هذه الزيادات كانت متواضعة، فقد صار ملاحظا أن بعد كل زيادة يُفاجأ المصريون بمجموعة من القرارات الاقتصادية القاسية التي تؤدي إلى ارتفاع المتوسط العام للأسعار، سواء كان ذلك بفعل تقليل الحكومة لمخصصات الدعم، أو بسبب تعويم الجنيه، أو زيادة في الضرائب والرسوم.

 

 

إن ما سبق يوضح أن الفجوة بين الأجور والأسعار تتسع بمرور الوقت في مصر، وهو ما يفسر ارتفاع نسب الفقر على الرغم من زيادة الحد الأدنى للأجور، وزيادة الأجور بشكل عام. وختاما فإن المعالجة الحقيقة للأجور في مصر ينبغي أن تستند إلى أن يكون المقابل الذي يحصل عليه العامل/الموظف كافيا لمتطلباته المعيشية، وهو ما سيحدث إذا تمتعت آلية إقرار الأجور بمشاركة مجتمعية عن طريق توسيع مشاركة النقابات العمالية وأرباب الأعمال، وكذلك إذا تحولت وجهة نظر القائمين على الحكم في مصر من النظر لمطالب العاملين بالعيش الكريم أنها عبءٌ ينبغي التخلص منه، إلى رؤيته حقا أساسيا من حقوقهم.

 

 

 

رؤية استراتيجية للأجور في مصر

 

 

المصادر

[1] عبد الحافظ الصاوي، أزمة أجور موظفي حكومة مصر، العربي الجديد، يونيو 2023، رابط

[2] المرجع السابق

[3] استفدت في صياغة بعض تلك المشكلات من تقرير صادر عن حلول للسياسات البديلة بعنوان: جودة العمل في مصر، يوليو 2021، رابط

[4] زيادة الحد الأدنى لأجور العاملين بالقطاع الخاص في مصر.. و”عدد كبير محروم”، سي إن إن بالعربية، إبريل 2024، رابط

[5] مجموعة البنك الدولي، صحيفة وقائع: تعديل خطوط الفقر العالمي، فبراير 2022، رابط

[6] ريم عبد الحليم، معضلة تطبيق الحد الأدنى للأجور في القطاع الحكومي “الإجراءات والفاعلية والتمويل”، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، مارس 2014، رابط

[7] شريف عثمان، معضلة الحد الأدنى للأجور في مصر، العربي الجديد، أبريل 2019، رابط

[8] محمد جاد، كيف يمكن حماية العمالة الهشة في مصر أثناء الأزمات؟، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ديسمبر 2022، رابط.

[9] Ragui Assaad, Is the Egyptian economy creating good jobs? A review of the evolution of the quantity and quality of employment in Egypt from 1998 to 2018, Economic Research Forum, October 2019, link.

[10] محمد جاد، كيف يمكن حماية العمالة الهشة في مصر أثناء الأزمات؟، مصدر سبق ذكره.

الوسوم :
شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *