منظمة مجموعات التحفيز

قول الحق الذي يُراد به باطل!

مقالات اخرى

قول الحق الذي يُراد به باطل!

أحمد محسن


في رحاب الجامعات وأثناء التعلم، نغرس المعارف والمفاهيم  في عقولنا ونسقيها بالنقاش والحوار. إلا أنّه عند تطبيق هذه المعارف على أرض الواقع، قد نُواجه تحدياتٍ وفجواتٍ بين ما تعلمناه وما تقتضيه الممارسة العملية. يقول البعض أن سبب ذلك هو وجود تناقضٍ بين العلم والعمل، بين النظرية والتطبيق، بين حياة الجامعة المثالية وبين الواقع المُعاش في المجتمعات والأسواق. هذا استنتاج خاطئ تماماً. التعليم الجيد، في تقديري، لا يُؤدّي إلى مثل هذا التعارض. بل على العكس تماماً،  يُؤسّس التعليم الجيد لفهمٍ أفضل للعلاقة بين النظرية والتطبيق، ويُنمّي المهاراتٍ الضروريةٍ لترجمة المعارف التى تعلمناها في قاعات الدرس  إلى حلولٍ واقعيةٍ على أرض الواقع.


التعليم الرديء أو نصف التعليم هو الذي يُؤدّي إلى مثل هذه الاستنتاجاتٍ الخاطئةٍ حول التناقضٍ بين العلم والعمل. فالنظرية، في جوهرها، نتاجٌ للواقع وتحليله. والعلم الحقيقيّ لاينفصل عن العمل، بل يتكامل معه. أما الحياة الجامعية، فإن لم تكن مُتصلةً باحتياجات المجتمعات وتحدياتها، فإنها تفقد أهميتها ومبرّرات وجودها. ولنأخذ مثالاً من مجال السياسات العامة.


 تُردد مقولة “الحكومة وحدها ليست المسؤولة عن صنع السياسات العامة للدولة” في رحاب الجامعات والمعاهد التعليمية والمراكزالبحثية بهدف غرس مفهوم جوهريّ لدى الطلبة والطالبات، ألا وهو ضرورة مشاركة جهاتٍ متعددةٍ في عملية صنع السياسات العامة إلى جانب الحكومة ومؤسساتها التنفيذية. فلا يجب أن  تقتصر مناقشة وإعداد وصياغة السياسات على جهةٍ واحدةٍ، بل تتطلب تضافر جهودٍ من جهاتٍ ومؤسسات مختلفةٍ، مثل الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، وأصحاب المصلحة، والناشطين الحقوقيين، وغيرهم. مثلاً، اذا ارادت  الحكومة عمل سياسات خاصة بالتوظيف والتعامل مع ارتفاع معدلات البطالة، فإن إعداد هذه السياسات بداية من مناقشتها والتفكير بها مروراً بإعدادها وصياغتها، وانتهاء بتنفيذها وتقيمها يجب أن يشارك فيها الأطراف الرئيسية اصحاب المصلحة، من الشباب والشابات أنفسهم الباحثين عن العمل، ومن رجال الأعمال والقطاع الخاص ، بالإضافة إلى الإعلامين ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالتنمية .


ويمكن ان تشمل المشاركة النقابات والاتحادات العمالية أو أي جهات أخرى ذات صلة. هذه  الأطراف والفواعل المختلفة، كلٌ منهم له رؤيته الخاصة لهذه المشكلة، والحلول والسياسات التى يمكن أن يطرحها للتعامل معها. تعدد الأفكار والسياسات من مواقع مختلفة، بل وفي بعض الأحيان من مواقع متعارضة يساهم في النهاية في رفع جودة السياسات النهائية التى سيتم تبنيها، كما يساهم في أن تكون هذه السياسات أكثر عدالة وتمثيلاً لقطاعات أوسع من المجتمع.


إن كانت مقولة ” الحكومة وحدها ليست مسؤلة……” صحيحةً في سياقها التعليمي، إلا أنها قد تكون أداة سلبية في سياقٍ آخر. فعندما يُردد نفس هذه المقولة رئيس الدولة أو أحد الوزراء أو المسؤولين التنفيذيين، فإننا يجب علينا التعامل معها بكثير من الريبة والحذر، فقد يُشير ذلك الاستخدام إلى تنصّلٍ من المسؤولية، أو سعيٍ لتجنّب المساءلةٍ. سياق الاستخدام اختلف، والظروف المحيطة به، لذلك من المهم أن تختلف الاستجابة والتفاعل.


ترديد هذه المقولة في الجامعات يهدف إلى حث الطلبة والطالبات على كسر احتكار الدولة ومؤسساتها التنفيذية لمناقشة وإعداد السياسات العامة. نريد المزيد من الفاعلين من الأفراد والمؤسسات المشاركين في السياسات العامة. في الأنظمة السلطوية، يتم تريد مقولة أن السياسات العامة للدولة وهي مسؤليةالدولة وفقط. المقولة في هذا السياق تحاول إخراج الكثيرمن الفاعلين المحتملين أو اقترابهم من مناقشة السياسات العامة أو صياغتها.  لذلك فإن افضل رد على هذه الممارسة هو تبني مقولة: أن السياسات العامة ليست حكراً على الحكومة ومؤسساتها فقط. الواقع العلمي يثبت ذلك والتفكير القيمي أيضاً. يُظهر لنا الواقع العملي الكثير من تدخل المؤسسات الدولية في أعمال الحكومات المحلية وقرارتها. يتضح هذا في المجال الاقتصادي من خلال مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهم. ويتضح ايضاً في التنمية الاقتصادية مع تبني العديد من الدول النامية اهداف التنمية المستدامة بعد تبنيها للأهداف الإنمائية للألفية. ويتضح ذلك في كثير من قطاعات السياسات المختلفة في الزراعة والطاقة، والمياة وغيرها.


ألا نتذكر إجراءت منظمة الصحة العالمية أثناء جائحة كورونا وكيف تبنتها الكثير من الحكومات والأنظمة. فلماذا يكون من حق هذه المؤسسات الدولية التأثير على السياسات العامة المحلية، في حين لايكون للمواطنين المحليين نفس الحق؟ أمامن حيث التفكير القيمي، فإن السياسات العامة كونها تهم المواطنين والمواطنات بالأساس وتؤثر على حياتهم وأعمالهم ومعيشتهم لايجب أن تتم مناقشتها أو الحديث عنها أو إقرارها إلا بمشاركة وفاعليه أوسع قطاع ممكن من هؤلاء المواطنين والمواطنات.


إذا انتقلنا إلى الواقع العملي، فإذا قالت الحكومة إن الحكومة وحدها ليست المسؤلة عن السياسات العامة فإن استقبال هذه المقولة والتعامل معها يرتبط بالسياق التى قيلت فيه هذه المقولة. هل قيلت هذه المقالة في سياق دفع الحكومة ومؤسساتها لمزيد من مشاركة وتفاعل المؤسسات والأفراد مع التحديات الحالية التى تواجهه المجتمع. تريد الحكومة في هذه الحالة إشراك مزيد من الفاعلين في صياغة هذه السياسات من أجل الحصول على سياسات أكثر عدالة أو أكثر فاعلية، أو ربما في سياق الحصول على مزيد من الشرعية والتأييد. في هذه الحال، سيرحب الكثيرون بهذه المقالة وستكون علامة جيدة في صالح هذه الحكومة. 


على الجانب الأخر، قد تستخدم الحكومة هذه المقولة للهروب من النتائج السلبية للسياسات الحالية، أو من أجل تحميل أطراف أخرى مسؤلية السياسات القادمة التى ربما لا ترضي قطاعات واسعة من المواطنين. هذه هذه الحالة،سنحتاج ان نسأل هل توفرت الظروف الملائمة من أجل مشاركة هذه الأطراف المختلفة في عملية صنع السياسات العامة أم لا؟ هل قامت الحكومة بالأدوار المطلوبة منها في هذه السياسات أم أنها تحاول التنصل منها. وغيرها من الاسئلة.


يُبرز اختلاف السياق حقيقةَ أنّ التعاطي مع نفس المقولة قد يختلف بشكلٍ كبيرٍ. ففي حين قد يُوفّر لنا التعليم الجزئيّ أو الغير الجيد المعرفةَ الأساسيةَ بالمقولة، ويُتيح لنا ترديدها في إجاباتنا على الامتحانات أو نقاشاتنا العامة، فإنّ التعليم الجيد هو وحده من يُمكّننا من فهم أبعاد هذه المقولة ومعناها الحقيقي. بشكل أخر، فإننا لايجب أن نقع ضحايا لقول الحق الذي يراد به باطل. فالمقولات قدتكون صحيحة في اصلها،لكن السياقات المحيطة باستخدامها قد تجعل منها مقولات خاطئة. مقولة “الحكومة وحدها ليست مسؤولة عن صنع السياسات العامة للدولة” صحيحةٌ في جوهرها، إلّا أنّ ذلك لا يُعفي الحكومة من مسؤولياتها، فهي تظل “مسؤولة” عن سياسات كثيرة. أيضاً، تُؤكّد هذه المقولة على ضرورة توسيع نطاق المشاركة في صنع السياسات العامة، لتشمل أطرافًا مختلفةً من المجتمع، مع العمل على تحسين نوعية هذه المشاركة وجودتها. فمن خلال مشاركةٍ فعّالةٍ من مختلف الجهات، تصبح السياسات العامة أكثر عدالةً وفاعلية، وتُلامس احتياجات المجتمع بشكلٍ أفضل.

الوسوم :
شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *