أتابع وأشاهد تطور المناهج التعليمية عالمياً، وعربياً، وألاحظ وجود فجوة بين المناهج المستخدمة في الغرب ودول أخرى وأثرها على التنمية والتطور في تلك المناطق الجغرافية، وتلك المستخدمة في المنطقة العربية وأثرها كذلك على التنمية، الأمر الذي يستدعي التعرف على المناهج التعليمية وأثرها على الأفراد والمجتمعات.
يُعترف بالتعليم عالميًا كركيزة أساسية للتنمية الشخصية والمجتمعية، كما إن المناهج التعليمية المستخدمة تؤثر بشكل كبير ليس فقط على نتائج التعلم للأفراد ولكن أيضًا على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأوسع للأمم.
أتناول من خلال هذا المقال المناهج التعليمية المختلفة المعتمدة عالميًا، وفعاليتها في تعزيز التنمية التعليمية، وفوائد تحقيق هذه التنمية. ومن ناحية أخرى، أناقش أيضًا العيوب التي تنشأ من إهمال التقدم التعليمي. وأخيرًا، يسلط المقال الضوء على أمثلة حول كيفية تأثير التعليم بشكل إيجابي على حياة الأفراد في جميع أنحاء العالم.
مناهج التعليم حول العالم
1. التعلم التقليدي القائم على المحاضرات المباشرة
يُعد النهج التقليدي القائم على المحاضرات، السائد في العديد من الدول، وخاصة في أنظمة التعليم الواسعة النطاق، نهجًا يركز على المعلم حيث يقوم المعلم بتقديم المعرفة لجمهور من الطلاب المتلقين. وبينما يعتبر هذا الأسلوب فعالًا في تقديم المعلومات المنظمة لمجموعات كبيرة، فإنه غالبًا ما يفتقر إلى التفاعل الحقيقي وفرص التفكير النقدي. وقد اعتمدت دول مثل الهند والصين، ذات الكثافات الطلابية الكبيرة، على هذا النهج تاريخيًا نظرًا لقابليته للتوسع.
2. منهج مونتيسوري
تم تطوير منهج مونتيسوري من قبل الدكتورة ماريا مونتيسوري في أوائل القرن العشرين، وهو منهج يؤكد على التعلم الذاتي، والأنشطة العملية، واللعب التعاوني. يعتمد هذا المنهج على الاعتقاد بأن الأطفال يتعلمون بشكل أفضل عندما يكونون أحرارًا في استكشاف اهتماماتهم بالسرعة التي تناسبهم. وقد أظهرت مدارس مونتيسوري، المنتشرة في جميع أنحاء العالم من الولايات المتحدة إلى اليابان، نجاحًا كبيرًا في تعزيز الإبداع والاستقلالية وحب التعلم بين الطلاب.
3. التعلم القائم على المشاريع (PBL)
التعلم القائم على المشاريع هو منهج تعليمي يتعلم فيه الطلاب من خلال الانخراط الفعلي في مشاريع حقيقية وذات مغزى شخصي. كما يشجع هذا النهج على حل المشكلات، والتفكير النقدي، والتعاون. وقد تبنت دول مثل فنلندا، التي تصنف باستمرار في المراتب العليا في التصنيفات التعليمية العالمية، التعلم القائم على المشاريع كجزء أساسي من نظامها التعليمي. وقد أظهر هذا النهج فعالية كبيرة في تعزيز التفاعل بين الطلاب وفهمهم من خلال ربط المحتوى الأكاديمي بالتطبيقات العملية.
4. الفصل الدراسي المقلوب
يقلب نموذج الفصل الدراسي المقلوب طرق التدريس التقليدية عن طريق تقديم المحتوى التعليمي، غالبًا عبر الإنترنت، خارج الفصل الدراسي. ويُستخدم وقت الحصة الدراسية بعد ذلك للتمارين والمشاريع والمناقشات، مما يسمح بتعلم أكثر تخصيصًا وتفاعلاً. وقد حظي هذا النهج بشعبية في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، خاصة في التعليم العالي. ويتميز بقدرته على تلبية احتياجات وأساليب تعلم متنوعة، مما يعزز الفهم والاحتفاظ بالمعرفة بشكل أعمق.
5. التعليم في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) والفنون (STEAM)
يركز التعليم في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) والفنون (STEAM) على نهج متعدد التخصصات للتعلم. تركز هذه المناهج على إعداد الطلاب لمتطلبات سوق العمل الحديث من خلال تعزيز مهارات مثل التفكير النقدي والإبداع والابتكار. وقد استثمرت دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وألمانيا بشكل كبير في تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، مما أدى إلى وجود قوي لها في قطاعات التكنولوجيا والهندسة على مستوى العالم.
6. التعلم التجريبي
يعتمد التعلم التجريبي على مفهوم التعلم من خلال التجربة، حيث يشارك الطلاب في أنشطة تتضمن تفاعلًا مباشرًا مع الموضوع المدروس. يُستخدم هذا المنهج على نطاق واسع في مجالات مثل الطب والهندسة وعلوم البيئة. فعلى سبيل المثال، كان التركيز على التعليم في الهواء الطلق والتعلم التجريبي في النرويج فعالًا في تعزيز الوعي البيئي والاستدامة بين مواطنيها.
7. التعليم عبر الإنترنت كمنهج تعليمي
يتضمن التعليم عبر الإنترنت، المعروف أيضًا باسم التعلم الإلكتروني أو التعلم عن بعد، تقديم محتوى تعليمي وتسهيل التعلم من خلال منصات رقمية عبر الإنترنت. فهو يسمح للطلاب بالوصول إلى الدورات والمحاضرات والموارد من أي مكان في العالم، وفي أي وقت، مما يجعل التعليم أكثر مرونة وسهولة في الوصول إليه. وفي الآونة الأخيرة، تطور هذا النوع من التعليم بشكل كبير نظراً للانتقال إلى عصر الرقمنة عالمياً، وحدوث إشكاليات صحية أو سياسية في مناطق كثيرة من العالم، الأمر الذي ساهم بقوة في إبراز هذا الحل الذي يعتبر سحرياً في مواجهة العديد من تلك الإشكاليات، بل إنه يُعتبر أحد عناصر الاستدامة حالياً لما يحمله من قدرات وإمكانيات تجعله حلاً مستقبلياً مستداماً وليس مجرد حلاً مؤقتاً ناشئ عن ظروف معينة. كما انتهجت العديد من الدول المتقدمة وغيرها حول العالم نهج الاعتراف والاعتماد لهذا النوع من التعليم، كذلك معادلة شهاداته ودرجاته العلمية ما ساهم في تقويته بشكل كبير حول العالم، وأتوقع على المستوى الشخصي أن يدخل هذا التعليم الإلكتروني كنوع مواز -معتمد ومعادل ومعترف به- للتعليم التقليدي المباشر في المنطقة العربية خلال هذا العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين نظراً لما يقدمه من مميزات وحلول إبداعية في مجالات التعليم الحديث.
فوائد التنمية التعليمية
1. النمو الاقتصادي
التعليم هو محرك رئيسي للنمو الاقتصادي. فالشعوب المتعلمة بشكل جيد تكون أكثر إنتاجية وابتكارًا وقدرة على التكيف، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاج الاقتصادي وتحسين مستويات المعيشة. على سبيل المثال، تحولت دول مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، التي استثمرت بشكل كبير في التعليم، من دول ذات دخل منخفض إلى اقتصادات ذات دخل مرتفع في غضون عقود قليلة.
2. العدالة الاجتماعية والشمول
تعزز التنمية التعليمية العدالة الاجتماعية من خلال توفير فرص متساوية لجميع الأفراد بغض النظر عن خلفياتهم. وهذا يساعد في تقليل الفقر، وكسر حلقة عدم المساواة، وتعزيز التماسك الاجتماعي. على سبيل المثال، ساهم برنامج “بولسا فاميليا” في البرازيل، الذي يربط التحويلات النقدية المشروطة بالالتحاق بالمدارس، بشكل كبير في تحسين النتائج التعليمية وتقليل الفقر.
3. التقدم التكنولوجي والعلمي
يعتبر التعليم القوي أساسًا للتقدم التكنولوجي والعلمي. فالدول التي تعطي الأولوية للتعليم، خاصة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، تكون في وضع أفضل للريادة في الابتكار والتقدم التكنولوجي. تركيز دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية على التعليم العالي والبحث العلمي جعلها قائدة عالميًا في مجال الشركات التكنولوجية الرائدة والناشئة كذلك، وفي مجالات الابتكار المختلفة. ويمكننا ملاحظة هذا الأمر كذلك في دول مثل ألمانيا، وكندا، وبريطانيا، وأستراليا، وسنغافورة، وسويسرا، والسويد، وكوريا الجنوبية، واليابان، حيث نجد التميز في تقديم أجود الفرص التعليمية والبحثية.
4. تحسين الصحة والرفاهية
كذلك يمكننا أن نرى وبكل وضوح أن التعليم يلعب دورًا حاسمًا في تحسين النتائج والمخرجات الصحية من خلال تعزيز الفهم الأفضل واعتماد وتبني الممارسات الصحية السليمة. فالشعوب المتعلمة تكون أكثر قدرة على اتخاذ قرارات صحية مدروسة، مما يؤدي إلى انخفاض معدلات الوفيات وزيادة متوسط العمر المتوقع. كما تُبرز منظمة الصحة العالمية كيف أن ارتفاع مستوى التحصيل التعليمي يرتبط بتحسين الصحة والرفاهية في جميع أنحاء العالم.
عيوب إهمال التنمية التعليمية
1. ركود النمو الاقتصادي
غالبًا ما تواجه الدول التي تهمل التنمية التعليمية نموًا اقتصاديًا راكدًا أو متراجعًا. فبدون قوة عاملة متعلمة جيدًا، تكافح هذه الدول بصعوبات بالغة للتنافس في السوق العالمي، مما يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية وبروز المشاكل الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، لا تزال العديد من دول أفريقيا -جنوب الصحراء الكبرى- التي تعاني من انخفاض مستوى التعليم تواجه تحديات اقتصادية على الرغم من وفرة الموارد الطبيعية.
2. عدم المساواة الاجتماعية وعدم الاستقرار
يؤدي نقص التنمية التعليمية إلى تفاقم اللامساواة والتفاوتات في المستويات الاجتماعية، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر، ووقوع الاضطرابات الاجتماعية. كما أنه وبدون الوصول إلى التعليم الجيد، تظل المجتمعات المهمشة عالقة في دورة الفقر والإقصاء والتهميش، مما يساهم في عدم الاستقرار الاجتماعي. ويرتبط التفاوت الكبير في الوصول إلى والحصول على التعليم ذو الجودة الكبيرة في بعض أجزاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بوقوع الاضطرابات الاجتماعية والسياسية المستمرة.
3. التخلف التكنولوجي والعلمي
تخاطر الدول التي تفشل في إعطاء الأولوية للتعليم، خاصة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، بالتخلف في الابتكار العلمي والتكنولوجي، وهذا لا يعيق قدرتها التنافسية العالمية فحسب، بل يحد أيضًا من قدرتها على مواجهة التحديات الملحة مثل تغير المناخ والأزمات الصحية العامة. الفجوة الرقمية في العديد من البلدان ذات الدخل المنخفض -على سبيل المثال- تؤكد على أهمية التعليم في سد الفجوة بين المتقدمين والمتخلفين تكنولوجيًا.
4. سوء النتائج الصحية
يرتبط نقص التنمية التعليمية ارتباطًا وثيقًا بسوء النتائج الصحية. فالشعوب التي تفتقر إلى التعليم الكافي تكون أكثر عرضة للانخراط في سلوكيات غير صحية، وتظل تعاني من إشكالية الوصول المحدود إلى الرعاية الصحية، وتواجه معدلات أعلى من الأمراض والوفيات. تؤكد المعدلات العالية للأمراض القابلة للوقاية في المناطق ذات التحصيل التعليمي المنخفض، مثل أجزاء من جنوب آسيا، على العلاقة الحرجة بين التعليم والصحة.
أمثلة على تحقيق حياة أفضل من خلال التنمية التعليمية
1. فنلندا
يُعرف النظام التعليمي في فنلندا بتركيزه على المساواة والإبداع والرفاهية. من خلال التركيز على التعلم الموجه للطلاب وتقليل الاختبارات الموحدة، حققت فنلندا نتائج تعليمية استثنائية. وقد تُرجم ذلك إلى قوة عاملة ذات مهارات عالية، ومستويات منخفضة من التفاوت في الدخل، ومستويات عالية من الرضا عن الحياة.
2. سنغافورة
يُعتبر الاستثمار في نظام تعليمي من الطراز العالمي الأول والأجود عاملاً رئيسياً في التحول الاقتصادي السريع في سنغافورة. فقد أدى التركيز على التعليم الثنائي اللغة، والتركيز القوي على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وبرامج التدريب الصارمة للمعلمين إلى إنتاج قوة عاملة ذات مهارات عالية ومبتكرة. ونتيجة لذلك، تعد سنغافورة الآن رائدة عالميًا في مجالات التمويل والتكنولوجيا والتعليم.
3. رواندا
جدير بالذكر هنا أن التزام رواندا بالإصلاح التعليمي بعد الإبادة الجماعية عام 1994 كان بمثابة عاملاً أساسيًا في تعافيها وتنميتها، حيث استثمرت الدولة في التعليم الأساسي للجميع وبشكل واسع، وتدريب المعلمين، وتعزيز تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم. وقد أسهمت هذه الجهود في تحسين معدلات معرفة القراءة والكتابة بشكل كبير، والنمو الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي.
4. ألمانيا
كان النظام التعليمي الثنائي في ألمانيا، الذي يجمع بين التدريب المهني والتعليم في الفصول الدراسية، ناجحًا للغاية في مواءمة التعليم مع احتياجات سوق العمل. وقد ساهم هذا النهج في انخفاض معدلات البطالة بين الشباب وتحقيق اقتصاد قوي. كما يُعتبر تركيز ألمانيا على التدريب المهني والتعليم الفني نموذجًا للدول الأخرى التي تسعى لسد الفجوة بين التعليم والتوظيف.
وفي الختام، أود التأكيد على أهمية دراسة المنهجيات العلمية المتعلقة بالتعليم عند الحديث عن أو اتخاذ إجراءات تتعلق بتطوير التعليم، سواء ما دون الجامعي، أو التعليم العالي. حيث تلعب المناهج التعليمية دورًا حيويًا في تشكيل مستقبل الأفراد والمجتمعات. وتشير الأمثلة العالمية وأفضل الممارسات في مجال التنمية التعليمية المدروسة بدقة إلى أن التعليم يمتلك القوة التحويلية المؤثرة في تعزيز النمو الاقتصادي، والمساهمة في تحقيق وتمكين العدالة الاجتماعية، والتقدم التكنولوجي، وتحسين النتائج الصحية. ومن ناحية أخرى، يؤدي إهمال التنمية التعليمية إلى ركود اقتصادي، وعدم المساواة الاجتماعية، وسوء النتائج الصحية، مما يؤدي إلى استمرار دورات الفقر وعدم الاستقرار. ومع استمرار تطور العالم، لا نكون مبالغين حين نقول أن تبني وتكييف المناهج التعليمية الفعالة هو الأمر الذي يجب أن يحظى بالاهتمام الأول والكبير. كما إن الاستثمار في التعليم ليس فقط مسارًا للنجاح الفردي بل هو أيضًا حجر الزاوية للتنمية الوطنية المستدامة، على أن يكون هذا الاستثمار استثماراً مبصراً مستنيراً بنور العلم والمنهجيات الحديثة مع القدرة على التكييف والإنزال على الحالات المختلفة لكل بلد من البلدان بما يحقق لها الصالح وأهدافها الرشيدة التي ترتقي بالبلاد والعباد أينما كانوا.