هل تأثرت غزة والمقاومة بسقوط الأسد؟
منذ بداية عملية ردع العدوان وحتى لحظة سقوط الأسد يدور تساؤل يحمل معه تخوفات منطقية وواقعية حول تأثر المقاومة والحرب في قطاع غزة وبشكل أوسع القضية الفلسطينية بسقوط نظام بشار الأسد. يجادل هذا المقال بأن محور المقاومة تم تحييد فاعليته قبل سقوط الأسد، بمعنى آخر وجود الأسد في السلطة أو عدم وجوده لم يكن سيقدم شيئا للمحور الذي فقد فاعليته ودوره الرئيسي المفترض.
لا شك أن سقوط نظام الأسد وكسر جزءٍ من محور المقاومة يحمل مكاسب واضحة لأمريكا وإسرائيل، ولا شك أيضا أن هناك رِضا أو موافقة ضمنية بمسار عملية ردع العدوان، وهذا أمر لا يقلل من جهد الفصائل السورية باختلاف توجهاتها، فتلاقي المصالح في مشاهد جيوسياسية متشابكة ومعقدة هو أمر شائع وليس مستغرب، وكما هو معلوم فقد شاهدنا بأعيننا كيف تتعامل أمريكا ومن خلفها حليفتها إسرائيل عندما يكون هناك تهديد لمصالحهم وأمنهم، رأينا ذلك عبر ما يزيد عن عام كامل شاهدنا قسوة المعركة وطول أمدها وصعوبة أو استحالة المفاوضات وانفضاض القريب قبل البعيد عن الدعم ولو بشكل دبلوماسي.
لكن هذه الحقائق لا تخفي أيضا حقيقة أخرى أن محور المقاومة من الناحية العملية والواقعية تعطّل إلى حد كبير، وبتعبير أدق لم يعد فاعلا أو قادرا على إسناد غزة، وأقصد بالإسناد الفعال ما يتعلق بالدعم الميداني والتكتيكي والاستراتيجي وليس الدعم الخاص بالجوانب المالية والفنية فهي في الواقع لا ترتقي إلى مرتبة الإسناد ولا تحتاج إلى محور لتقديمها.
حزب الله
من المهم أن ندرك جيدا فروقا جوهرية تفصل بين الحزب قبل ثلاث شهور، والحزب الآن، ولا أريد المبالغة بقول إن النسختين مختلفتان إلى حد كبير.
النسخة الحالية للحزب هي التي تنازلت عن إسناد غزة، وتراجعت ووافقت وقبلت بصفقة مع إسرائيل بموافقة إيرانية، وهي في الواقع الأكثر حرصا قبل إسرائيل على سريان اتفاق وقف إطلاق النار، وهذا لا تثبته الوقائع والأحداث بعد إعلان الاتفاق فقط ولكن الخطاب السياسي للحزب يؤكد ذلك بوضوح، وهذا أمر متفهم في ظل الخسائر الفادحة للحزب على المستوى القيادي وعلى مستوى البنية التحتية والذخيرة والأسلحة، والأهم من ذلك على المستوى الاجتماعي وحاضنته الشعبية وحالة القبول العام من اللبنانيين بمشروعية حزب الله بوصفه حركة مقاومة، وهو ما يعني خسائر كبيرة لنفوذه السياسي في لبنان.
لكن هذا لا يعني بالتأكيد تراجع الحزب عن قدرته على استعادة عافيته وترميم بنيته التحتية ولو على المدى البعيد، لكن هنا أيضا من الصعب أن نتجاوز السؤال الأهم هل الاتفاق الذي تراقبه أمريكا يعطي الحزب هامشا للمناورة لبناء قدراته مرة أخرى؟ والإجابة هنا يمكن قراءتها من السلوك الإسرائيلي الحازم في تنفيذ بنود الاتفاق والتي يبدو منها بوضوح أن الكيان يدرك أن الصفقة ليس لها قيمة إذا لم يستطع من خلال مراقبته وعملياته منع خطوط الإمداد القادمة من سوريا للحزب.
لذا يمكننا القول إن النسخة الحالية للحزب منهكة وضعيفة، وفقدت الجغرافيا التي كانت أحد أهم أدوات قوتها، ومحاصرة من أي دعم لوجيستي وعسكري، والأهم من كل ذلك فقدت قيادتها المؤثرة والفاعلة. هذه الصفقة بشروطها وبما تحمل في ثناياها من انتصار لإسرائيل وأمريكا -أو على أقل تقدير تحقيق أهدافهم في الجبهة الشمالية- في الواقع لا توفر أي مساحة للحزب المنهك للمناورة التي تمنحه استعادة عافيته، والنتيجة بشكل موجز أن الحزب فقد فاعليته وقدرته على الإسناد للمقاومة ولغزة بعد الصفقة.
إيران
أين تقف إيران الفاعل الرئيسي في المحور قبل سقوط الأسد؟ هذا السؤال يدفعنا إلى تأمل موقف إيران في الشهور الأخيرة. فمن بداية الحرب في قطاع غزة كان من الواضح أن إيران ليس لديها رغبة في اتساع رقعة الحرب والدخول في مواجهة واسعة مع أمريكا وإسرائيل، لذا كانت التحركات الإيرانية تتوافق مع رؤيتها، لكن ثمة تغييرات رئيسية طرأت؛ أسهمت في تحول الموقف الإيراني في الشهور الأخيرة ولا يمكن تخطيها وهي بالترتيب: (1) غياب الرئيس الإيراني رئيسي ووزير خارجيته عن المشهد السياسي في إيران (2) ضربات إسرائيل للحزب بداية من حادثة تفجير البيجرات وانتهاء باغتيال نصر الله (3) فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية.
دفعت هذه المتغيرات إيران إلى استراتيجية أبعد من مجرد عدم رغبتها في اتساع الحرب، ولكن لترغب في تأمين قدراتها النووية بوصفها أولوية بقدر الإمكان، بعد أن أصبح الأمر غير مستبعد في ظل وجود ترامب وسياسته العنيفة المتوقعة مع طهران وفي ظل استمرار نتنياهو للضغط على أمريكا للقيام بهذه الخطوة، وكذلك بعد أن فقدت إيران استراتيجية الدفاع المتقدم (خسارة حزب الله) والتي كانت تمنحها مساحة كبيرة للمناورة قبل أن تصل إلى مرحلة التهديد المباشر للقدرات النووية.
كان لنتيجة التراجع الإيراني والتمسك فقط بالحفاظ على قدراتها النووية بوصفها أولوية، انعكاسٌ واضحٌ على مسار الحرب بين الحزب وإسرائيل التي منعت الحزب من استخدام أدواته بفاعلية على الرغم من الضربات الإسرائيلية القاتلة والوصول إلى مفاوضات وقف إطلاق النار، تلك التي جعلت إيران تدفع الحزب للقبول بها في نهاية المطاف. والنتيجة أن الموقف الإيراني في السنوات القادمة مبنيٌ على مقاربة رئيسية وهي تجنب تهديد القدرات النووية الإيرانية، وهذا لن يعني فقط تنازلات إيرانية كبيرة ومؤلمة -بدأت باستباقها بإبداء الاستعداد للتفاوض بشأن برنامجها النووي ودفعها للحزب بقبول التراجع إلى شمال الليطاني-، ولكن الأهم من ذلك تراجع كبير لأداء محور المقاومة أو بشكل أكثر دقة تجميد محور المقاومة والحفاظ بقدر الإمكان على نفوذها وتواجدها في سوريا.
إلى جانب ذلك، افترضت إيران منذ بداية دعمها للقضية الفلسطينية وللمقاومة في غزة أن مجرد مشاركتها في محور يحمل هم تحرير الأرض وخاصة القدس سيمنحها المبررات للوقوف مع أنظمة مستبدة والاصطفاف معها في خندق واحد والمشاركة في عمليات القتل والإبادة للأبرياء. كان الرهان خاطئا منذ البداية ليس فقط لعدم انحيازه للشعوب وقيمة الحرية والعدل التي هي من المفترض جوهر الثورة الإيرانية التي ألهمت العالم في وقت ما بقدرتها على الإطاحة بالظلم والاستبداد، ولكن لأن الانحياز استند في الواقع على أنظمة هشة وضعيفة، يمثل سقوطها وتحرر الشعوب منها مسألة وقت.
بشار الأسد
لنتأمل قليلا في موقف بشار في الفترة الأخيرة وعلى أي شيء كان يراهن برغم ضعفه الشديد. أدرك بشار أن السياق الإقليمي والدولي خاصة بعد تأمين إسرائيل للجبهة الشمالية وإنهاك غزة وفوز ترامب سيعني تركيزا إسرائيليا وأمريكيا على تقويض نفوذ إيران وحزب الله في سوريا، وهذا يعني أن نظام بشار سيكون هشا وضعيفا أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع عدم ضمان استمرار دعم بوتين في ظل صفقة متوقعة مع ترامب بشأن أوكرانيا، فربما يقدم فيها بوتين تنازلات في سوريا مقابل مكاسب أكبر في أوكرانيا. دفع هذا التصور بشار إلى الوصول لنتيجةٍ أنّ الانسحاب عمليا من محور المقاومة قد يكون هو عنوان المرحلة اللاحقة.
وبالتالي كان أمام بشار خيارين إما أن يراهن على الدعم الخليجي العربي لتعزيز سلطته دون اللجوء لحل سياسي مع المعارضة السورية، أو الرهان على قبول المفاوضات التركية التي يصاحبها حل للأزمة السياسية في البلاد، وكلا الرهانين مقبولان لدى أمريكا وإسرائيل مادامت إيران وحزب الله خارج الخريطة السياسية في سوريا.
اختار بشار الرهان الخليجي وتحديدا الإمارات، وبادرت تركيا والفصائل السورية فخسر بشار الرهان، والنتيجة في نهاية المطاف أن الخروج العملي لسوريا من محور المقاومة كان سيحدث بأي حال بغض النظر عن بقاء بشار في السلطة او سقوطه.
المحصلة
إن محور المقاومة تم تحييد فاعليته قبل سقوط الأسد، ووجود بشار في السلطة لم يكن سيقدم شيئا عمليا في الوقت الحالي للمحور الذي فقد فاعليته، لكن كان وجود بشار في السلطة سيعني بقاء النفوذ الإيراني دون أن يكون لذلك تأثير جوهري على مسار المقاومة.
هذه النتيجة لا تعني بالتأكيد أن الأوضاع في سوريا الآن محل احتفاء من منظور دعم القضية الفلسطينية، فإلى جانب القلق والترقب والتخوفات فإن سوريا أمامها طريق طويل وتحديات داخلية قبل أن يكون لها دورٌ خارجي مؤثر، وكل ما نتمناه أن يسعد السوريون بنسائم الحرية والعدل والمساواة التي حُرموا منها لعقود، وأن يتمكنوا من التوافق حول شكل السلطة بنظام يرمم التمزقات المجتمعية العميقة والخلافات السياسية الحادة، وأن يمتلكوا استقلالية القرار بقدر الإمكان بعيدا عن محاولات تمدد النفوذ الإقليمي والدولي.
أما نحن بوصفنا متابعين من بعيد نخوض نقاشات وجدالات حول محور المقاومة وعلاقاته وتحالفاته، علينا مسؤولية فردية وجماعية في الوقت الراهن في مواصلة دعمنا بكل من نملك من إمكانياتنا لفلسطين، فإذا كان محور المقاومة قد تعطل، فليس أقل من وجود محور مقاومة شعبي، لعله يسهم ولو بالقليل في قضية نعلم جيدا أن الموقف منها هو الذي يشكل كل خرائط التحالفات والصراعات في المنطقة.